بقلم : علي المطاعني
شهدت سلطنة عُمان خلال ثلاثة أعوام من عهد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه - تحولات كبيرة على العديد من المستويات و الأصعدة ، وفي العديد من المجالات في إدارة شؤون الدولة وترتيب بيت الحكم ، وتنظيم السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ، وإدارة المحافطات وتفعيل دورها بما يتواكب مع المستجدات الوطنية والدولية ، ويتوافق مع تطور المجتمع العُماني وتهيئتها أكثر لتقبل الإستثمار وإدارة الشؤون المحلية بشكل يعزز التنمية فيها ، ولم يغب الشأن المالي والإقتصادي الذي يُعد عصب الحياة اليوم عن إهتمامات جلالة السلطان - حفظه الله - وذلك بهدف الحفاظ عل المكانة والإستدامة المالية للدولة والتنويع الإقتصادي وإعتماد رؤية عُمان 2040 لكي تكون البوصلة التي تشير وترتقي بسلطنة عُمان إلى مصاف الدول المتقدمة.
وما تسعى إليه الرؤية من تعزيز سياسات تنويع مصادر الدخل وتقليل الإعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل ، وتعظيم الإستفادة من ثروات البلاد ، كل ذلك مع الحفاظ على المكتسبات الوطنية المتحققة أصلا على مدى نصف قرن من بداية دوران عجلة من التنمية الشاملة في البلاد ، ومن ثم البناء على ماتحقق في كل الميادين والمجالات وبما يسهم في المضي قدما إلى ما نتطلع ونصبو إليه ، فضلا عن الحفاظ على مبادئ السياسة الخارجية التي اختطتها عُمان مع العالم والقائمة على إحترام المواثيق الدولية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير ومد يد الحوار وتحقيق الأمن والسلم العالميين ، ومناصرة القضايا العادلة في المحافل الدولية ، الأمر الذي أسهم في بلورة توجهات متفائلة بمسيرة هذا الوطن تحت القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق - حفظه الله ورعاه - وإستشراف آفاق مستقبل أفضل بإذن الله بفضل توجهات جلالته ومتابعته المستمرة ونظرته الحانية لأبناء شعبه والعمل علي توفير كل ما من شأنه اسعادهم.
فعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي شهدتها سلطنة عُمان كما دول العالم تمثلت في الأوضاع الإقتصادية المتذبذبة وخاصة إنخفاض أسعار النفط في السنوات الماضية وإنعكاساتها على الأوضاع المالية للدولة ، وهجمة فيروس كروونا وما تلى ذلك من إغلاقات وتقييد الحركة الإقتصادية والإجتماعية وإنعكاساتها ، والأنواء المناخية وتبعاتها وغيرها من التحديات ، فضلا عن زيادة الدين العام على الدولة وخدمته سنويا بما يزيد عن بليون ريال ، كلها وغيرها من التحديات لازمت فترة تولي جلالة السلطان المعظم مقاليد الحكم في البلاد ، ومن الطبيعي أن تؤثر على مسيرة العمل الوطني في العديد من المجالات الإقتصادية والإجتماعية والتنموية.
فالسنوات الأولى في حكم أي رئيس دولة في العالم تُعد مرحلة إنتقالية تأخذ مدى زمنيا ليس بالبسيط ، إلا أن هذه المرحلة كانت وجيزة وقصيرة في سلطنة عُمان بفضل القيادة الواعية التي يتمتع بها جلالة السلطان ورؤيته الثاقبة ومتابعته المستمرة لمجريات الأمور والعمل الدؤوب ، كل ذلك وغيره أسهم في إجتياز هذه المرحلة الحساسة والدقيقة في سلام وأمان .. ولعل من نافلة القول بأن تهيئة مؤسسات الدولة على مدى الخمسين عاما الماضية تحت قيادة جلالة السلطان قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه - وتقاسم السلطات وتحديد مهامها في الفترة الماضية أسهمت في سير الأمور بشكل سلس وبدون أي عقبات تشهدها الدول في مراحل الحكم.
إن ما يثلج الصدر حقا أن النهضة المباركة التي شهدتها سلطنة عُمان على مدى الـ 50 عاما الفائتة من حكم المغفور له بإذن الله السلطان قابوس ظلت كما هي مع تفعيل نقلة نوعية أطلق عليها النهضة المتجددة بتولي جلالة السلطان هيثم مقاليد الحكم بالبلاد مع الإنطلاق إلى آفاق أوسع للتنمية وفق نفس المحددات والثوابت الوطنية وتجديد الأليات التنفيذية وفق معطيات المرحلة الراهنة وبما يتواكب مع المتغيرات الوطنية والدولية ، فجاءت النهضة المتجددة منسجمة تماما ومتناغمة كليا مع ما شهدته النهضة المباركة بكل مراميها وأهدافها وبما يحقق الرخاء في البلاد ويسعد الشعب العُماني.
ولعل ما شهدته السلطنة خلال السنوات الثلاث الماضية من طفرات واسعة للأمام يصعب حصره في هذه العجالة ، إلا أن أبرز ما فيها إصدار تحديثات واسعة في النظام الأساسي للدولة واستحداث منصب ولي العهد في السلطنة ولأول مرة منذ انطلاق النهضة عام 1970 ، وذلك لإضفاء المزيد من سمات الإستقرار وبث الطمانينة في نفوس المواطنين والمستثمرين وإيجاد تدرجا واضحا ومستقرا في نظام الحكم ، بدلا من الإنتطار إلى آخر لحظة وذلك لمواكبة المتغيرات الوطنية والدولية التي يشهدها العالم ، والتعاطي مع الحاضر بواقعية وشفافية.
لقد كانت رعاية جلالته للقوات المسلحة والأجهزة الأمنية في الفترة الفائتة متعاظمة وتعكس رؤيته لما تمثله من أهمية كبيرة في الحفاظ على المكتسبات الوطنية ودرء كل الأخطار التي تحيق بالوطن ، فكانت الرعاية شاملة ، والإهتمام لافتا رغم الظروف الإستثنائية التي أشرنا إليها والتي واكبت تولي جلالته مقاليد الحكم ، وهو ما يبعث على الإرتياح لما يشكله ذلك من أهمية كبيرة في بقاء هده القوات والأجهزة حاضرة أبدا وبإعتبارها الركن الأساس في منظومة حماية الدولة من كل الأخطار ، ولعل تطوير قدراتها وإعادة هيكلة بعض قطاعاتها وإجراء تغيرات في إداراتها كانت جزءا لا يتجزأ من مفهوم النهوض بكفاءتها والإرتقاء باداءها.
وعلى الجانب الإدراي وهو كما نعلم هام على صعيد إنسياب الأداء العام لأجهزة الدولة بدون معوقات وعقبات ، فكانت أبرز الأعمال إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة وإضفاء المزيد من الرشاقة إليه ورفع كفاءة أداءه بما يتواكب مع متطلبات العمل الإداري الحديث وإستجابة لمعطيات الواقع الذي يتطلب حكومة أكثر ديناميكية وقدرة على الإستجابة للمستجدات الوطنية وتتماشى مع ما يشهده العالم من تطور سريع ومتسارع ، فإعادة هيكلة الأجهزة الحكومية من خلال دمجها وترتيبها وفق القطاعات المختلفة لإحداث التكامل والإنسيابية في العمل فيما بينها وإنهاء أي صيغة ما لوجود تباين وتعارض مابينها قد يعرقل الأداء العام لها .
لقد واكب تغيير الحكومة إعتماد رؤية عُمان 2040 لتنفيذها من جانب الحكومة و تحقيق أهدافها وفق البرامج والمبادرات والإستثمارات لترتفي بعُمان إلى ما نتطلع اليه جميعا ، على ذلك جاء إنشاء وحدة متابعة رؤية عُمان لملازمة ما يتم إنجازه وحلحلة التحديات التي تواجه تنفيذ الرؤية وذلك تجنبا لما واجهته رؤية عُمان 2020 ، التي إنطلقت عام 1996 ، وكانت تفتقر لهذه الآلية.
ولا نغفل هنا إصدار برنامج (التوازن الإقتصادي) وما شهده من تغيرات كبيرة في إدارة الجوانب الإقتصادية والمالية بشكل يتماشى مع الأوضاع التي شهدتها السلطنة وكيفية تلافي التأثيرات السلبية بهدف الحفاظ على مكانة الدولة المالية ومؤشرات التصنيفات الدولية وإنعكاساتها على الأوضاع الدولية المالية والإقتصادية والتنافسية ، فهذا البرنامج رغم التأثيرات الجانبية إلا انه كان بمثابة طوق النجاة للبلاد من أزمة أو أزمات قد تكون مؤلمة ، كما أن هيكلة الرسوم والضرائب وفق معطيات الواقع المعاش كان إنسجاما ذكيا ساهم في إرساء دعائم الإستقرار للآليات الإقتصادية برمتها.
لقد شهدت المنظومة التشريعية تعديلات وتحديثات في الأطر والقوانين وإضفاء المزيد من الصلاحيات وتهيئتها للمرحلة المقبلة سواء بمجلس الشورى أو مجالس البلدية.
وكذلك المنظومة القضائية حيث تم دمج العديد من الجهات تحت مظلة المجلس الأعلى للقضاء ، وكان هذا الإجراء من أبرز التطورات التي شهدتها السلطنة بهدف رفع كفاءة جهاز القضاء وتطويره لينسجم مع ما تتطلبه المرحلة القادمة ورفع كفاءته الإدارية ليغدو مواكبا مع التطورات العصرية والتكنولوجية.
أما الحماية الإجتماعية فقد كان هذا المحور بالغ الأهمية هو الشغل الشاغل لجلالته حفظه الله لإيجاد منظومة تحمي شرائح واسعة من المجتمع من تأثيرات المتغيرات والتقلبات الإقتصادية وتجنب الآثار الجانبية لبرنامج التوازن الإقتصادي وذلك من خلال ضم صناديق التقاعد والمعاشات في منظومة واحدة ، ويتوقع أن تصدر هذا العام لتكون بمثابة المظلة الإجتماعية الحانية لأبناء الشعب العُماني وخاصة الطبقات المتوسطة من ذوي الدخل المحدود وضمان توفير سبل الحياة الكريمة لهم.
ومن أهم الجوانب التي شغلت جلالته محور جذب الإستثمار الأجنبي وتسهيل بيئة الأعمال بإعتبارها الوسيلة المثلى للخروج من عنق الزجاجة في إطار التنويع الإقتصادي الذي يحتاج إلى إستثمارات ضخمة في القطاعات الإقتصادية المختلفة ، وكما نعلم إنه وبدون رساميل أموال كبيرة لن نتمكن من تنفيذ وتنزيل مفهوم التنويع الإقتصادي لأرض الواقع ، ولعل إنشاء جهاز الإستثمار العُماني ليكون اليد الطولى للإستثمار جاء تحقيقا لهذا المفهوم إذ مناط به جذب الإستثمارات الوطنية والأجنبية وتعزيز الثقة في المناخ الإستثماري بالبلاد والدخول في شراكات مع مستثمرين أجانب وتطوير منظومة التشريعات الإستثمارية ، وكذلك دمج مؤسسات الإستثمار تحت مظلة وزارة التجارة والصناعة وترويج الإستثمار لتشرف وترعى الإستثمار في البلاد وتطويره بما يتواكب مع متطلبات المرحلة القادمة ، فضلا عن منح التسهيلات والإعفاءات للشركات والمؤسسات لتتجاوز أي ظروف غير مواتية ، وتهيئة كل السبل لتجاوز العقبات والعثرات التي واجهتها في فترة الجائحة الكرونية.
ولا نغفل مدى إهتمام جلالته بتوفير فرص عمل للشباب العُماني وتوجيهاته المستمرة للحكومة بإيجاد السبل التي من شأنها أن تهيئ الفرص الملائمة وتشجيع العمل الحر وريادة الأعمال ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
وعلى الصعيد الداخلي أولى جلالة السلطان إهتماما كبيرا بالمحافظات ونظم إدارتها وإستقلاليتها وهيكلتها تحت مظلة وزارة الداخلية للإشراف عليها وتنظيم شؤونها بدلا من تعدد إدارة المحافظات وما يمثله ذلك من إرتباك وتعدد الجهات المشرفة ، وكذلك إعطاء صلاحيات مناسبة للمحافظين لتصريف الأمور الداخلية وتفعيل الإستثمار فيها.
وعلى الصعيد الخارجي أولى جلالته إهتماما كبيرا بعلاقات السلطنة مع دول العالم والمحافطة على ما تحقق في هذا الجانب على مدى الـ 50 عاما الماضية من خلال مد يد التعاون والترابط مع الأشقاء والأصدقاء ، وتبادل الزيارات التي شهدتها سلطنة عُمان ، وزيارات جلالته لعدد من الدول الشقيقة والصديقة رغم الظروف الصحية الإستثنائية التي كانت سائدة.
بالطبع الإنجازات التي تحققت في فترة وجيزة من عمر النهضة المتجددة التي يقودها جلالته وما تحقق فيها كان كبيرا رغم كل التحديات والظروف لتعكس الإرادة السامية لمواصلة العمل الوطني في كافة المجالات ورسم ملامح المستقبل المشرق لهذا الوطن العزيز.
نأمل أن تكلل كل هذه الجهود بالنجاح والتوفيق بحول الله وقدرته ، وأن نسعى جميعا لرفدها بما نملك من طاقة وجهد ومثابرة وبما يحقق الرخاء والرفاهية لهذا الوطن ولأبناءه البررة.