العامرات… عندما تتحول واحة التسامح إلى مرآة لأزمات المجتمع.

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٨/نوفمبر/٢٠٢٥ ١٨:٢١ م
العامرات… عندما تتحول واحة التسامح إلى مرآة لأزمات المجتمع.

مرتضى بن حسن بن علي

لم يكن احتفال الجالية الهندية في حديقة العامرات إلا مجرد فعالية ثقافية عابرة، ومع ذلك نجح في إشعال نقاش وطني واسع امتد لأيام. فما الذي جعل مشهدًا ثقافيا يتحول بهذه السرعة إلى عاصفة رقمية هزّت المزاج العام؟

الجواب أن حادثة العامرات لم تكن أزمة دينية ولا خلافًا مع جالية بعينها، بل كانت مرآة لعمق التوترات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والثقافية التي تراكمت عبر السنوات، ووجدت في تلك الواقعة منفذًا للتعبير عن خيبة وقلق واحتقان أصبح يصعب كبته.

الجمر تحت الرماد: اقتصاد مضغوط وجيل يعيش صدمة التحول.

على امتداد العقد الماضي، مرّت عمان بتحولات اقتصادية عميقة اعادت رسم توقعات جيل كامل.

فبعد عقود كان فيها القطاع الحكومي مظلة التوظيف والاستقرار، بدأت قدرة الدولة على استيعاب الخريجين تتراجع بفعل أزمات المالية العامة وتذبذب أسعار النفط ، إضافة إلى تشبع الوحدات الحكومية بالوظائف.

وفي الوقت ذاته، واجهت الأسر العمانية ارتفاعًا ملحوظًا في تكاليف الحياة مع تطبيق الضرائب المختلفة وسحب الدعم التدريجي عن الخدمات لايجاد توازن بين المصروفات والإيرادات حسبما ذكرتها الحكومة.

هذه التحولات لم تكن “قرارات مالية” فحسب، بل تغييرًا جذريًا في نموذج الأمان الاجتماعي الذي نشأ عليه جيلان كاملان.

ومع ضرورة الإصلاح الاقتصادي، بقي الأثر المباشر على الناس قاسيًا:

زيادة في الالتزامات الشهرية، تراجع في القوة الشرائية، وتقلص في فرص العمل المناسبة.

أربعة عقود من الخطط… ونتيجة واحدة.

التحولات الحالية لم تنشأ من فراغ، بل هي امتداد لمسار طويل.

فمنذ عام 1976، دعت الخطط الخمسية المتتالية إلى:

   • تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط،

   • زيادة الاستثمار في القطاعات المنتجة والموفرة للوظائف،

   • تعزيز دور القطاع الخاص والتنافسية،

   • وتطوير أنظمة التعليم والتدريب لإحلال العمالة الوطنية.

لكن التنفيذ على أرض الواقع لم يواكب طموح تلك الخطط.

ظل النفط المصدر الرئيسي للدخل، وبقي القطاع الخاص هشًا في بنيته، بينما لم تخلق منظومات التعليم المهارات اللازمة لاقتصاد رقمي حديث.

النتيجة: جيل يدخل سوق عمل لا يشبه ما أعدّته له المدارس والجامعات.

الجالية الهندية: شريك تاريخي أم منافس اقتصادي؟

للجالية الهندية حضور عميق ومتجذر في عمان، ومساهمة واضحة في التنمية.

لكن ضخامة حجمها وانتشارها في قطاعات رئيسية، في ظل بطالة شبابية متنامية ،خلقت تصورًا لدى البعض بأنها “شبكة مغلقة” تهيمن على فرص العمل.

مشكلة هذا التصور أنه:

   • ناتج عن نقص التواصل الثقافي والاجتماعي المباشر،

   • ويغذيه الفراغ المعلوماتي حول طبيعة سوق العمل،

   • ويُضخّم عبر منصات التواصل التي تفضل المحتوى العاطفي على الحقائق.

هكذا أصبح أي احتفال أو تجمع هندّي يبدو — في عين بعض المتابعين — “استعراضًا للنفوذ”، رغم أنه غالبًا مجرد نشاط ثقافي طبيعي يمارسه مئات الآلاف من المقيمين منذ عقود.

الظرف الإقليمي… وتأثير الإعلام.

لم يكن المزاج الديني المحيط بعيدًا عن الصورة.

فالتغطيات الإعلامية في السنوات الأخيرة حول التوترات الدينية في الهند خلقت حساسية عالية تجاه أي رمز هندوسي، حتى لو كان بعيدًا تمامًا عن السياسة.

ثم جاءت الحرب على غزة وما رافقها من ألم وغضب وتعبئة عاطفية، لتجعل الشارع أكثر توترًا تجاه كل ما يلامس الهوية والدين.

في هذه الحالة المشحونة، يصبح أي اختلاف بسيط قابلًا للتأويل المبالغ فيه.

منصات التواصل: وقود العاطفة وسرعة الاشتعال.

وسائل التواصل الاجتماعي لم تكن مجرد مرآة، بل كانت مسرّعًا.

فالخوارزميات تدفع نحو المحتوى الأكثر إثارة، بينما يضعف المحتوى التحليلي والهادئ.

هكذا تحوّلت الحادثة الصغيرة في حديقة العامرات إلى موجة وطنية، ليس لأن المشهد كان خطيرًا، بل لأن المجتمع كان أصلًا محمّلًا بالأسئلة والضغوط.

درس التاريخ: الانفتاح قوة لا تهديد.

في وسط الانفعال، يبرز درس من تاريخنا:

الحضارات القوية لا تخشى الاختلاف، بل تستثمره.

في العصر العباسي الأول، لم تكن بغداد قلعة مغلقة، بل مركزًا لترجمة علوم الإغريق، واستيعاب خبرات الفرس، والاستفادة من المعارف الهندية في الرياضيات والفلك والطب.

هذا الانفتاح لم يُضعف الهوية الإسلامية بل جعلها أكثر نضجًا وثراءً.

وهذا بالضبط ما تحتاجه عمان اليوم: ثقة بالذات تسمح بالتفاعل دون خوف، وبناء لا بردّات فعل.

خاتمة حاسمة: ماذا يجب أن نفعل الآن؟

لكي لا تتكرر أحداث مشابهة، ولتستعيد واحة التسامح توازنها الطبيعي، نحن بحاجة إلى خطوات واضحة لا شعارات عامة:

1. إصلاح اقتصادي حقيقي يولّد وظائف حقيقية.

عبر تنمية قطاعات إنتاجية (الصناعة، اللوجستيات، التكنولوجيا، الطاقة المتجددة)، وتقليل الاعتماد على العمالة منخفضة التكلفة.

2. إصلاح تعليمي وتدريبي جذري.

يركز على المهارات الحديثة: الرقمية، التقنية، الابتكار، والتفكير التحليلي — حتى يصبح العماني قادرًا على المنافسة في سوق يتغير بسرعة.

3. حوار وطني شفاف

يوضح للناس مسار الإصلاح وأهدافه، ويعالج فجوات المعلومات التي تتحول إلى تصورات خاطئة وتوترات اجتماعية.

4. بناء جسور مع الجاليات المقيمة.

عبر برامج ثقافية وتطوعية وتربوية تخلق تفاعلًا إنسانيًا مباشرًا، وتكسر الصور النمطية من الطرفين.

حادثة العامرات لم تكن أزمة… بل “إنذارًا”.

إنذارًا يذكّر بأن التحديات الاقتصادية والاجتماعية إن تُركت دون معالجة، ستبحث عن منفذ تعبّر من خلاله — ولو كان احتفالًا صغيرًا في حديقة عامة.

والقوة ليست في تجنب العواصف، بل في معالجة أسبابها وبناء مجتمع قادر على تحويل اختلافه إلى ثراء لا صراع.