الثورة التكنولوجية التي تكتسح العالم، هي بداية حقبة تاريخية غير مسبوقة في تاريخ البشرية وسوف تؤدي الى احداث تغييرات واسعة في أنماط الحياة والعادات والتقاليد وفرص العمل والانتاج. وفي مجال فرص العمل فأن عشرات الاولوف من الوظائف الحالية سوف تختفي ووظائف كثيرة سوف تظهر.
وعلى الصعيد الزراعي مثلا،فانه نتيجة للتقدم الكبير في مجال التكنولوجيا الحيوية، تم انتاج سلالات جديدة اكثر تطورا، وانتاج أنوع جديدة من الأرز المهجن مثلا، الذي يتمتع بقدرة اعلى على مقاومة الأمراض والحشرات وزرعه في المياه المالحة او الأراضي غير الصالحة للزراعة . ولم يرتق المحصول من حيث النوع فحسب، بل انه زاد من حيث الكم ايضا بين ضعفين آلى أربعة اضعاف من مستوى الانتاج السابق.
وتشكل البحوث العلمية في مجال السلالات الجديدة التي هيأتها مراكز البحوث الزراعية الدولية المتقدمة، مجالا راقيا في مجال البحوث والعلوم الزراعية التطبيقية.
وتستطيع الإنجازات الحيوية العلمية الكبرى ان تقدم المساعدة لحل المشاكل المرتبطة بالجفاف وقلة المياه وتدني جودة التربة، اضافة الى عدم كفاية الاراضي الصالحة للزراعة.
من الصعب معالجة الفقر الزراعي او تحقيق الاكتفاء الذاتي في الغذاء ، عن طريق الإصلاحات الفنية او بالقرارات الإدارية فقط، ما لم يتم معالجة الجوانب الهيكلية والثقافية والعلمية من المشكلة الزراعية. وحيث أخفقت الحلول الاكثر تقليدية في حل المعضلة،تركز الاهتمام في السنوات الاخيرة على التكنولوجيا الحيوية،احدى ثمار الثورة التكنولوجية. ويقصد بالتكنولوجيا الحيوية اية طريقة تستخدم أعضاء حية وتعمل معالجات معينة لايجاد او تعديل المنتجات او تحسين سلالات من الحيوانات والنباتات او لتطوير أعضاء حية دقيقة بغية استخدامها في أغراض محددة.وغدا بامكانية مهندس الوراثة حقن جين جديد داخل الحمض النووي المعروف باسم دي. ان. اي DNA. الموجود في كل خلية بهدف تحسين قوة العضو الحي او زيادة حجمه او تعزيز مقاومته للامراض وتحسين الانتاج من ناحيتي الكم والنوع أو ايجاد نباتات مهجنة جديدة تتمتع بصفات أحسن. .
والثورة التكنولوجية تعتمد على الإلكترونيات الدقيقة والهندسة الحيوية، والذكاء الصناعي، وتوليد المعلومات حول كل شؤون الأفراد والمجتمعات والطبيعة،واختزانها واستردادها وتوصيلها بسرعة متناهية بل آنية، وعلى الاستخدام الأمثل للمعلومات المتدفقة بوتيرة سريعة. وهي تعتمد اساساً على العقل البشري.ولأن العقل البشري يُمثل طاقة متجددة لا تُنضب، فإنَّ هذه الثورة سوف لن تكون حكرا على المجتمعات الكبيرة المساحة والضخمة السكان أو الغنية بمواردها الأولية أو القوية بجيوشها التقليدية، بل إنها ثورة يمكن لجميع شعوب العالم -بما في ذلك عمان-أن تخوض غمارها -سواء أكانت كبيرة أم صغيرة- إذا ما أحسنت إعداد أبنائها تربويا وعلميا وتدريبيا واجتماعيا وفكريا لذلك. والدليل على ذلك ما حققته سنغافورة مثلا وهي دولة صغيرة جدا في المساحة وعديمة الموارد الطبيعية، لكنها استطاعت استثمار وتطويع مواردها البشرية المتاحة بشكل علمي صحيح، مما مكَّنها من أن تكون على قائمة الدول المتقدمة في العالم في ثورة المعلوماتية التكنولوجية مثلا. وعكس ذلك، فإنَّ هذه الثورة سوف تنطوي على أذى كبير للدول النامية بما في ذلك عمان، لأنها سوف تُحِيل معظم الأنشطة الاقتصادية والوظائف الحالية إلى مشروعات لا جدوى منها. وستكون التكنولوجيا الحديثة عِبئا ثقيلا على كواهلنا في حالة اخفاقنا باستيعابها ، بينما في حالة استيعابها وتوطينها وتوظيفها، فإنَّها ستنطوي على منفعة كبيرة لنا.وكيفية إدارتنا لمواردنا البشرية والتكنولوجية سوف تلعب دورا كبيرا في تحديد قدراتنا على مواجهة التحولات العالمية الضخمة الحاصلة. والحكومة وأدواتها المختلفة تتمكن ان تلعب دورا محوريا لإنجاحها،وعلى الجهات المسؤولة ضمان توفر مهارات التعلم والتدريب على الوظائف الجديدة، والانطلاق المعرفي المستمر، وضرورة قبول الأخطاء والاعتراف بها؛ وذلك لأنَّ المنهج التجريبي يقتضي الخطأ، والولوج من خلاله إلى النجاح بدلا من حشو عقل الإنسان الصغير بمعلومات تجاوزها العلم والزمن.
كما على المجتمع والأسرة أيضا زرع قيم العمل والإنتاجية والصبر والمثابرة والأنَّاة في أبنائها. المستقبل هو لأولئك الذين عملوا ومنحوا لأنفسهم ولأبنائهم فرص الإبداع والابتكار والتجربة والصواب والخطأ.
لكن من جهة أخرى، يترتب على هذه الثورة التكنولوجية الكاسحة أو يصاحبها تداعيات كثيرة يكفي أن نذكر منها:
1- التغير الاجتماعي المتسارع، إذ أن القيم والمعايير والعادات والتقاليد والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية ستكون عرضة للتغير والتحول والتبدل عدة مرات في حياة الفرد، لا بين جيل وجيل كما كان عهدنا في الماضي، ولكن في حياة نفس الجيل وبطريقة مستمرة. ولن يقتصر هذا التغير الاجتماعي المتسارع على من يشاركون أو يصنعون هذه الثورة الثورة، ولكنه سيشمل كل شعوب الارض.
2- الانفتاح الإعلامي الثقافي الحضاري العالمي المتسارع، فوسائل الاتصال السريعة بل والآنيّة تعبر الحدود بلا حدود ولا شروط ولا قيود برسائلها ومضامينها وأفكارها من اي مجتمع لأي مجتمع آخر، وسوف تصبح وسائل الإعلام والرقابة التقليدية أدوات بدائية عديمة الكفاءة وقليلة الفاعلية في منع أو تحصين الفرد والمجتمع ضد استقبال محتويات الرسائل الإعلامية والثقافية والعادات الوافدة من مجتمعات وثقافات أخرى.
إنَّ التحصين الحقيقي في مواجهة هذا التدفق الإعلامي الثقافي الوافد هو وعي الفرد والمجتمع وقدرتهما على الفرز النقدي، وفِي قدرة وسائل الإعلام والتعليم والثقافة الوطنية والأنظمة الاجتماعية، على تقديم بدائل أكثر جدية ومصداقية وجاذبية. وهذه مهام تتجاوز قدرات أنظمة التعليم والإعلام والثقافة والاجتماع كما عرفناها في الماضي، أو كما نعرفها الآن في مجتمعاتنا، فهذه المهام تتطلب أجهزة خلَّاقة ومقتدرة إذا كان لها أن تحافظ على هويات مجتمعاتها الحضارية القومية الثقافية وتحفظها من المسخ والذوبان، وفي نفس الوقت الذي لا يتحول فيه المجتمع إلى متحف تاريخي تراثي منغلق وجامد.