تحوّل احتفال الجالية الهندية الذي أُقيم مؤخرًا في حديقة العامرات بمسقط إلى محور جدل واسع في السلطنة، بعدما انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي مقاطع قيل عنها انها تُظهر طقوسًا هندوسية في الحديقة العامة.
ما كان يُفترض أن يكون فعالية ثقافية واجتماعية ، انتهى إلى عاصفة رقمية حملت في طياتها موجة من التحريض والكراهية ضد الجالية الهندية والهندوسية، في مشهدٍ غير مألوف على المجتمع العُماني المعروف تاريخيًا بتسامحه وتعدديته الدينية والمذهبية.
الفعالية التي نظّمتها الجالية الهندية بالتنسيق مع الجهات المختصة كانت ضمن احتفالات ترحيب برئيس وزراء ولاية كيرالا الهندية. مقاطع الفيديو التي انتشرت بشكل مجتزأ أثارت غضب البعض على المنصات الرقمية، واعتبرها آخرون “تجاوزًا للخطوط الحمراء” في بلد مسلم.
وفي المقابل، ظهرت أصوات عُمانية متزنة تدعو إلى التريث واحترام خصوصية الآخر، مؤكدة أن قيم التسامح لا تتجزأ، وأن سلطنة عمان كانت ولا تزال نموذجًا فريدًا في التعايش والاعتدال وسط منطقة ملتهبة بالصراعات المذهبية والدينية.
التحريض الرقمي :الوجه الجديد للكراهية
تكشف هذه الحادثة عن وجهٍ جديدٍ من التحريض الديني في عصر المنصات الاجتماعية. فالمعركة لم تعد تدور في الشوارع، بل في فضاءات الإنترنت، حيث تنتشر المواقف المتطرفة بسرعة البرق، ويتحوّل الاختلاف إلى خصومة، والهوية إلى سلاح.
ومع الأسف، تُغذي هذه الحملات فئاتٌ تفتقر للمعرفة والثقافة الرقمية، فتنجرّ وراء عناوين ومقاطع مُقتطعة من سياقها، دون وعيٍ بتداعياتها على النسيج الاجتماعي.
ليس من المبالغة القول إن ما جرى في العامرات يُجسد أول اختبار حقيقي لمناعة التسامح العُماني أمام العواصف الرقمية.
فبينما استطاعت عُمان لعقود أن تتفادى الانقسامات الطائفية والفكرية بفضل مناعتها المجتمعية، تظهر اليوم تهديدات جديدة أكثر خفاءً قادمة من الفضاء الإلكتروني، حيث يُعاد إنتاج التطرف عبر التغريدات والمنشورات لا عبر الخطب والمظاهرات.
عُمان: استثناء تاريخي أمام اختبار معاصر.
منذ عقود، تُقدَّم سلطنة عُمان كنموذج عربي نادر للتعايش الديني والمذهبي،
فالمذهب الإباضي السائد في البلاد تميّز، بوسطية فكرية وروحية، وابتعادٍ عن الغلو والانقسام.
وساهمت الهوية البحرية والانفتاح التجاري والثقافي في بناء عقلية عُمانية منفتحة ومتصالحة مع الاختلاف، إذ لم تعرف عمان عبر تاريخها الطويل حروبًا دينية أو إقصاءً طائفيًا كما شهدته مجتمعات عربية أخرى.
كما أن السياسة الخارجية العُمانية المتزنة أسهمت في ترسيخ صورة السلطنة كدولة سلام وحوار، بعيدة عن الاستقطابات الإقليمية التي غذّت الانقسامات في العالم العربي.
فهذا الاتزان في الداخل والخارج هو ما جعل عمان واحة استقرار وتسامح في محيطٍ يعصف به التطرف والانقسام.
المناعة الوطنية ضد التحريض.
إن ما يُعرف بـ«المناعة الوطنية» ليس مصطلحًا سياسيًا مجردًا، بل هو نتاج تراكم ثقافي واجتماعي طويل.
في عمان، تأسست هذه المناعة عبر عوامل عديدة ولكن العامل الأبرز والأهم يتمثل في روح التسامح الذي ساد بين ابناء عائلة أل سعيد انفسهم وأدى إلى وعي النخبة السياسية والثقافية والدينية العُمانية وانحيازها لمبدأ التسامح وعبر خطابٍ ديني معتدل يُغلب العقل على الانفعال، والجوهر على المظهر .
لكن في زمن تتحكم فيه العواطف الرقمية، لم تعد قيم التسامح مسؤولية الدولة وحدها، بل أصبحت مسؤولية جماعية تتوزع بين الأسرة والمدرسة والجامعة والمسجد والمأتم والمنصة الإعلامية.
فمن دون وعيٍ رقمي وتربيةٍ على الحوار واحترام التعدد، يمكن لأي مقطع مجتزأ أو إشاعة مجهولة أن تُحدث شرخًا في النسيج الوطني.
المدارس والمساجد والمئاتم والجامعات والإعلام مطالبون اليوم بتعزيز ثقافة الاختلاف، وترسيخ فكرة أن الاختلاف لا يعني التهديد، وأن احترام المعتقدات لا ينتقص من الهوية الوطنية، بل يعزّزها ويقوّي نسيجها الاجتماعي.
التسامح العُماني: قوة لا ضعف
إن حماية صورة عمان المتسامحة لا تكون بالمنع أو بالصراخ، بل بالتثقيف والاحتواء والتواصل الحضاري الذي يليق بتاريخ بلدٍ صنع حضارته على الانفتاح، لا على الخوف من الآخر.
فما جرى في العامرات يجب أن يُقرأ لا بوصفه إساءةً دينية، بل مؤشرًا على الحاجة لتجديد الخطاب المجتمعي حول التعايش في زمن المنصات المفتوحة والى الحاجة بالتحرك لمعالجة المشاكل الاقتصادية التي تواجهها عمان والتي تساهم بالتأجيج.
حادثة العامرات ليست مجرد جدل عابر، بل جرس إنذار حضاري يذكّر بأن التعايش لا يُمنح إلى الأبد، بل يُصان بالوعي والعقل والعدالة والنمو الاقتصادي.
لقد أثبتت عمان على مدار نصف قرن أنها قادرة على تحويل الأزمات إلى فرصٍ للتعقّل، وأن التنوع فيها مصدر قوة لا ضعف.
وإذا كانت العواصف الرقمية قادرة على إشعال الكراهية في دقائق، فإن المناعة الفكرية العُمانية قادرة على إخمادها بالحكمة والوعي والمسؤولية.
إن ما جرى في العامرات لم يكن مجرد جدل حول طقسٍ ديني، بل مرآة لوضع اقتصادي بحاجة إلى حلول جوهرية له ولمزاجٍ عربي مأزوم يختبر قدرته على قبول التعدد في زمنٍ يضيق فيه الناس بالاختلاف أكثر مما يضيقون بالخطأ.
وعُمان، التي قاومت عبر قرون رياح الانقسام والاحتراب، قادرة اليوم على أن تقدّم درسًا جديدًا في كيفية إدارة التنوع بهدوء، لا بخوف.
فالتسامح ليس شعارًا للترف الأخلاقي، بل استراتيجية بقاءٍ وازدهار، تحفظ المجتمع من التشظي، وتمنح الأوطان قدرتها على الاستمرار في عالمٍ مضطرب يبحث عن صوت العقل وسط ضجيج الكراهية.