
بقلم: ناصر بن عبدالله الريامي، خبير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة لدول مجلس التعاون
بتاريخ 10 سبتمبر 2025م، طالعتنا وسائل الإعلام، بمرسومٍ سلطاني سامٍ، رقم 78/2025، بإصدار قانون مكافحة الاتجار بالبشر الجديد. قضى المرسوم في مادته الثانية بإلغاء قانون مكافحة الاتجار بالبشر، رقم 126/2008، وإلغاء كل ما يخالف أحكامه، أو يتعارض معه. كما أشارت المادة الثالثة من المرسوم إلى العمل بالقانون الجديد من تاريخ صدوره.
هذا، وبالنظر إلى أن المادة (5) من قانون الجزاء، رقم 7/2018، أكّد فيها المشرع صراحة على مبدأ "عدم الاعتداد بالجهل بالقانون"، بمعنى أنه لا يقبل من أحدٍ التذرع بجهله بالقوانين الصادرة والنافذة، ليتفادى المسئولية القانونية، جزائيةً كانت أم مدنية. فالقوانين تصدر لتكون ملزمةً على الجميع؛ ولا يشترط في إلزاميّتها ثبوت الإطلاع على أحكامها. فالعلم هنا مُفترض؛ ما لم تتوفّر استثناءات ضيّقة جدًا، لسنا بصدد بيانها في هذا المقام.
من هذا المنطلق؛ واستنادًا إلى خبرتي الفنية - على الصعيدين الرسمي "سابقًا"، والخاص "الآن" - في هذا الملف غير العادي في فكرته عن عموم الملفات الجزائية؛ والعصيّ، في الوقت نفسِه، على التعرّف على ملامحه والتعرف عليه، من ناحيةٍ ثانية؛ وهو المؤدي – بالنتيجة – إلى ندرة الحالات المضبوطة؛ وكذا، ندرة المبسوطة منها على القضاء، من ناحيةٍ ثالثة؛ رأيت من الأهميةِ بمكان تبصير عامة أفراد المجتمع بأحكام هذا القانون، لاسيما تلك التي وسّع فيها المشرع من نطاق التجريم، أو لم تكن مجرمة في الأساس.
قبل الولوج في استعراض بعضٍ من ومضات القانون الجديد؛ وجدت من المناسب أن أستهل ذلك ببيانٍ إستهلالي، أشير فيه إلى أن "الاتجار بالبشر"، كثير ما يُوصفه الفقه الجزائي، باصطلاح "العبودية الحديثة". يرجع ذلك إلى بشاعة الأفعال التي يجرمها القانون؛ ومن ذلك: جملةً من أشكال استغلال البشر، في أعمال الدعارة القسرية، والعمل القسري؛ والإستعباد المنزلي؛ والزواج القسري؛ ومن الأخير، بعض حالات زواج القاصرات. ومن أشكال استغلال البشر أيضًا، التسول القسري؛ والنزع غير المشروع للأعضاء، وكذا الأنسجة البشرية، بقصد الإتجار بها، أو لإجراء البحوث الطبية؛ واستئجار الأرحام (القانون التونسي هو القانون العربي الوحيد المجرم لهذا الفعل الأخير).
فبالنظر إلى الأفعال التي يجرمها هذا القانون الحاسم، فحقيقٌ به أن يوصف بـ"العبودية الحديثة"؛ بل، وأن تلصق هذه الصفة باسمه، رسميًا؛ وهذا الذي فعله المشرع البريطاني. فلقد أطلق الصفة على اسم القانون "قانون الرق الحديث، لسنة 2015"، أو ما يعرف بـ(Modern Slavery Act)؛ والحال عينه بالنسبة للمشرع الموريتاني، الذي أَطلق عليه اسم "قانون محاربة الرق والعبودية"، لسنة 2007م، والمعدل في سنة 2015م. فعلًا، فإن الأفعال التي يجرمها القانون الماثل، تجد جذورها من ذلك الإرث اللاإنساني المتصل بنظام الرق والعبودية، الذي لطالما اعتقد العامة بأنه أضحى من مخلفات التاريخ؛ فإذا به لا يزال كائنًا بين ظهرانينا.
وعليه، أورد تاليًا أهم ومضات هذا القانون:
1. يُستفاد من حكم المادة (6) من القانون، أن جريمة الاتجار بالبشر، قائمة أساسًا على "استغلال البشر"؛ وذلك، باقتراف أفعالٍ، منصوص عليها حصرًا؛ وأن يتحقق هذا الاقتراف باستعمال وسيلة من الوسائل التي أوردها على سبيل المثال، وهي (الإكراه، أو التهديد، أو الحيلة، أو الإختطاف، أو استغلال الوظيفة، أو النفوذ، أو بإعطاء مبالغ مالية أو أو مزايا، للحصول على موافقة شخص له سيطرة على شخصٍ آخر؛ أو بأي وسيلة أخرى غير مشروعة). مع ملاحظة أن "الاستغلال" هنا، هو القصد الجنائي الخاص. بمعنى، أن الجريمة لا تستقيم، ما لم يثبت الادعاء العام يقينًا للمحكمة، بأن غرض المتهم انصرف إلى "الاستغلال"؛ وليس إلى شيءٍ آخر.
مع مُلاحظة أن الجريمة تستقيم، حال كون المجني عليه طفلًا، أو عديم الأهلية، أو ناقصها؛ ولو لم تستخدم أيّ من الوسائل آنفة البيان؛ ما دامت معطيات القضية أكّدت، بالقطع واليقين، أن الغرض هو "الاستغلال".
2. وفي بيانٍ للمراد القانوني لمصطلح "الاستغلال"، أورد المشرع تعريفًا له في المادة (1)، مبينًا أنه الإستخدام غير المشروع للشخص، ويشمل: الدعارة، أو أي شكلٍ من أشكال الاستغلال الجنسي، أو الرق، أو الممارسات الشبيهة بالرق، أو الاستعباد المنزلي، أو السخرة، أو العمل قسرًا، أو التسول، أو النزع غير المشروع للأعضاء، والأنسجة البشرية؛ بقصد الاتجار بها، أو إجراء البحوث الطبية.
3. مع ملاحظة أن استغلال شخص عن طريق دفعه إلى "التسول"، لم يكن من صور الاستغلال، المكون لجريمة الاتجار بالبشر، في ظل القانون الملغي. لا شك أن المشرع أوجد – بهذه الإضافة - حماية إضافية للمجني عليه؛ ذلك لأنه، وإن كان قد جرم في المادة (298) من قانون الجزاء، فعل "استخدام حدث أو تسليمه للغير، بقصد التسوّل"؛ إلا أن هذه الأخيرة، لا يعني بالضرورة انسحاب القصد إلى "الاستغلال"، الذي هو مناط استقامة جريمة الاتجار بالبشر؛ كما أن الحماية الجنائية في المادة المذكورة، مخصّصة لمن هم دون الثامنة عشر من أعمارهم، دون سواهم.
وبهذا المعنى، أوجه نداءً إلى رجال الضبط القضائي، بضرورة توخي الحذر عند التعامل مع حالات التسول المضبوطة في الأماكن العامة؛ والتمييز بين تلك التي تدفعها إرادة حرة؛ وبين القسرية منها. فلا ينبغي التعامل معهما دومًا بمقتضى قانون الجزاء، الذي يصنفها بالجنحة؛ في حينٍ أن الواقعة قد تشكل جناية الاتجار بالبشر؛ وشتان بين التكييفين من حيث الردع العام والردع الخاص.
4. رأينا في النص الذي عرف مصطلح "الاستغلال"، أن المشرع وسع من نطاق مفهوم الاتجار بالبشر، في القانون الماثل؛ وذلك، بأن أضاف فعل "نزع الأنسجة البشرية"، بقصد الاتجار بها، أو إدخالها في البحوث الطبية. بهذه الإضافة، أكد المشرع أن الإنسان لا ينبغي – بحالٍ من الأحوال – أن يكون محلًا للتعامل التجاري؛ وهو ما ينصب، في المجمل، تحت بند صون الكرامة الإنسانية.
5. كما أضاف المشرع في مادة التعريفات، تعريفًا لمصطلح "الاستغلال الجنسي"، يقرأ على النحو التالي: "استخدام شخص أو أكثر، في أنشطة أو ممارسات ذات طابع جنسي، بوسائل غير مشروعة، كالإكراه أو الخداع أو استغلال الضعف أو "الحاجة"، وذلك بغرض تحقيق مكاسب مادية أو غير مادية". هذا النص، وإن كان جديدًا في شكله؛ إلا أن مضمونه كان متحصلًا من المادة (2) من القانون الملغي، حين أبان فيها المشرع مجمل الوسائل المستخدمة، لاستقامة جريمة الاتجار بالبشر. ومع ذلك، فالجديد في تعريف مصطلح "الاستغلال الجنسي"، هو إضافة وسيلة غير مشروعة أخرى، يستخدمها المتجرون في عادةً استغلال ضحاياهم، ألا وهي "الحاجة". وحسنًا فعل المشرع عندما أمسك عن إيراد تعريفٍ لها في مادة التعريفات؛ تاركًا الأمر لاجتهاد الفقه والقضاء.
ففي جريمة الدعارة القسرية مثلًا، فالاجتهادات الفقهية والقضائية، في بعض الأنظمة المقارنة أشارت إلى أن الحاجة الاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية، تضعف من إرادة المجني عليها، وتجعل حرية الاختيار لديها معيبة. فالتي تفتقد إلى هذه الاحتياجات، قد تخضع للدعار القسرية، أو أي فعلٍ منافٍ للآداب، المفروضة عليها من المتجرين بالبشر. فالفقر المدقع، واضطرار المرأة إلى رعاية أسرة كبيرة بمفردها؛ أو مجرد الاغتراب المقرون بالفاقة؛ وربما المقرون بقلة الوازع الديني أيضًا؛ قد يدفعها إلى اقتراف أفعالٍ، من المحال أن تقترفها، أو مجرد أن تخطر على بالها، في الظروف الإعتيادية.
ومن الأهمية بمكان أن نلفت الانتباه هنا، إلى أن المشرع، وإذ يقر بـ"الحاجة" كوسيلة من وسائل الاستغلال؛ وبالتالي، يشمل أصحابها بالحماية الجنائية؛ فهو لا يسوغ تلك الأفعال أخلاقيًا؛ وإنما، يهدف بذلك إلى الضرب بيدٍ من حديد على من يستغل هذه الفئة المستضعفة من الناس، بعقوباتٍ مغلظةٍ ورادعة.
6. وفي تعريف جريمة الاتجار بالبشر، أضاف المشرع إلى قائمة الوسائل التي يعمد إليها الجاني، عند اقترافه فعلٍ من الأفعال المكونة للركن المادي للجريمة، "إعطاء مبالغ مالية أو مزايا، للحصول على موافقة شخص له سيطرة على شخصٍ آخر".
ومن تطبيقات هذه الإضافة، الآتي: أن يعمد المسئول الأعلى في العمل إلى توجيه أحد المدراء لديه بأن يرسل إليه موظفة، تحت إمرة هذا الأخير، لغايةٍ في نفسه؛ ويوعد المدير بالحصول على امتيازات وظيفية محددة، كالترقية، أو عضوية بعض اللجان الخاصة، أو الوعد بعلاوة استثنائية، التي يختص بها المسئول الأعلى للمتميزين من العاملين. فإذا تحقق للمسئول العبث بالموظفة؛ أو تحقق له إشباع وطر غيره بها؛ تتحقق جريمة الاتجار بالبشر بحق المدير والمسئول الأعلى؛ وبحق غيرهما ممن استفاد مما قدمته لهم الموظفة من خدمات، استغلالًا لظروفها، وفقما سنرى في حكم المادة (20).
وتستقيم الجريمة، والعياذ بالله، حال استغلال الزوج زوجته؛ كأن يدفعها لمقابلةِ أحدٍ من المدراء، أو من المسئولين النافذين، في أماكنٍ خاصة، طمعًا في الترقية، أو تزكيته لمنصبٍ مرموق؛ أو لنيل امتيازاتٍ خاصة. مع ملاحظة أن الجريمة تستقيم، ولو توقفت عند مرحلة الشروع؛ وكل من اشترك فيها، يعد فاعلًا أصليًا، وفق المادة (7).
7. يؤكد لنا هذا القانون أن المشرع العُماني استجاب لجملةٍ من المبادئ التوجيهية التي يصدرها مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC)، بشأن التعامل مع جرائم الاتجار بالبشر؛ إذ قرر في المادة (12) - فضلًا على ما تقدم - إسقاط المسئولية الجزائية، وكذا المدنية عن المجني عليه الذي يقترف أيّ من جرائم الاتجار بالبشر؛ متى ما نشأت أو ارتبطت وكونه مجنيًا عليه. فالمرأة التي تُجبر على ممارسة البغاء، لا ينبغي مقاضاتها بالمخالفة لقانون الجزاء؛ لأنها ضحية استغلال. والحال عينه بالنسبة لضحايا التسول القسري، لغرض الاستغلال؛ وكذا، الفئات المستضعفة من الناس، التي تُستغل في تهريب الممنوعات؛ أو اقتراف المخالفات العمالية، كإجبار عامل المنزل على العمل في مطعم، أو موقع إنشائي.
مع ملاحظة أنه، لا ينبغي النظر إلى هذا الإعفاء على أنه تساهل وتسامح غير مقبول من المشرع؛ وإنما، هو لإنتفاء الركن المعنوي للجريمة (الإرادة الحرة). ومع ذلك، ينبغي على الادعاء العام الوقوف على قيام علاقة السببية بين الجريمة المقترفة، وحقيقة كون مقترفها ضحية اتجار بالبشر؛ وأن يبسط على القضاء أيضًا، ما يؤكد - بالقطع واليقين – وقوع مقترفها تحت نير الاستغلال، لتعرضه لوسيلة واحدة على الأقل من الوسائل المنصوص عليها في المادة (6) من القانون؛ وفوق هذا وذاك، ألا يكون الضحية قد تجاوز حدود الفعل الناتج عن الاستغلال. فإذا كانت الواقعة، محل البحث، تتمثل في استغلال دعارة الغير؛ فإن الضحية لا ينبغي أن تساءل عن ممارسة هذه الرذيلة؛ وتساءل عما جاوزها من أفعال، كالسرقة من الزبون مثلًا.
8. وعلى غرار ما فعل المشرع في القانون الملغي، من تجريم فعل من علم بارتكاب جريمة الاتجار بالبشر، ولم يبلغ السلطات المختصة عنها، ولو كان مسئولًا عن السر المهني، مثل الطبيب، أو المحامي، إلخ؛ فلقد أكد المشرع المضمون نفسه في المادة (20/1) من القانون الماثل. مع ملاحظة أن كلمة "كل"، تشمل أفراد المجتمع (رجل الشارع). فلا عذر لأي إنسان علم بوقوع جريمة اتجار بالبشر، ولم يبادر بإبلاغ السلطات. فإذا كان الأمر كذلك، فكيف بمن يستغل الضحية بعد أن تحقق هذا العلم.
9. هنا تدخل المشرع وجرم فعل الأخير في المادة (20/3) من القانون؛ حيث نص على الآتي: "كل من استفاد – مع علمه بجريمة الاتجار بالبشر – من خدمة أو منفعة أو عملٍ يقدمه المجني عليه؛ وتضاعف العقوبة، إذا كان المجني عليه طفلًا أو عديم الأهلية أو ناقصها". مع ملاحظة أن العقوبة تصل إلى ثلاث سنوات سجن؛ وبغرامة تصل إلى ألف ريال عُماني.
ومن تطبيقات هذا المقتضى، أن يعلم الرجل يقينًا أن المجني عليه ضحية الاتجار بالبشر، ويعمد إلى شراء خدمة من الخدمات التي تقدمها قسرًا. قد تكون تلك الخدمات دعارة، أو عمل قسري؛ أو شراء ما ينتجه الأطفال قسرًا؛ أو شراء عضو من الأعضاء الجسدية، أو الأنسجة البشرية.
الكاتب: ماجستير في علم الإجرام والعدالة الجزائية
مساعد المدعي العام (متقاعد)