
مسقط - ش
عندما التقينا في معرض الشارقة للكتاب قبل سنة ونصف أهداني صديقي الشاعر والروائي العراقي الكبير عماد جبار أحد دواوينه (الطيور تداوي جراحاتها بالسفر) حيث كتب بخط أنيق الشارقة جمعتنا مرة أخرى وجمعت ذكرياتنا في بغداد. بهذا قد منحني مشكورا فرصة التمتع بأشعاره. فهو يعلم أني أفضل تلمس النصوص الإبداعية فهي كائنات حية يعتبر القرب المادي منها ذا معنى.
الديوان الذي أُفتتح بقصيدة بغداد التي مطلعها:
أعودُ من وحشة الأسفارِ ثانيةً
ولا أصدقُ عيني أنني فيها
الديوان الذي حوى أكثر من 75 نص يطلبك كل نص فيها أن تبدأ قراءته قبل أن تكمل السابق.
أخترت لكم منها نص (تخلٍّ) لنقرأه مع بعض:
تخلٍّ
هكذا أنتحي جانباً
تاركاً للبقية هذا الفضاء الفسيح
مفرداً مثل طير على حجرٍ
أو صفيح
سأرمّمُ قلبي لوحدي
أُنظّمُ نبضاتِه
هكذا أنتحي جانباً
مثلما ينبغي
أو يَليقُ بنسرٍ جريح
عنوان النص وفضاءه الشعري:
أبدع الشاعر في اختيار كلمة واحدة: "تخلٍّ"، تحمل دلالات متعددة. فهي توحي بالانسحاب الإرادي من المشهد، ولكنها أيضًا تعبر عن السمو على ما هو حولنا. وهكذا، تتكرر داخل النص المفارقة بين "الانسحاب" و"الكرامة"، حيث يتعزز المعنيان معًا.
وتفنن الشاعر في إظهار العزلة كخيار بطولي، حيث تتجلى في صورته وهو يبتعد عن العالم:
-"هكذا أنتحي جانبًا
تاركًا للبقية هذا الفضاء الفسيح"
الانسحاب هنا ليس هزيمة، بل قرار واعٍ، ينبع من شعور بعدم الانتماء لما يحيط به.
الفضاء الواسع يعكس عالمًا خارجيًا كبيرًا، لكنه لا يعبّر عن الشاعر، ولا يحتويه، لذا يختار أن يكون على الهامش، في العزلة، وفي الصمت.
الرمز والصورة:
- "مفردًا مثل طير على حجر أو صفيح"
هذه الصورة ترمز إلى الوحدة، لكنها أيضًا تعبّر عن كرامة الكائن الذي يختار أن يبقى مستقلًا، لا يُروّض، ولا ينتمي إلى قفص.
- "حجر أو صفيح" يضيف ملمسًا قاسيًا، ربما يعبر عن الغربة والابتعاد عن الوطن. هذا الملمس صادق، يعكس جدية الشاعر في التخلي، ويعبّر عن حقيقة مُرّة.
- "سأرمّمُ قلبي لوحدي، أنظمُ نبضاته"
صورة تعبر عن استقلالية عاطفية، حيث لا ينتظر الشاعر شفاءه من الخارج، بل يعيد ترميم ذاته بنفسه. هنا تظهر النبرة التأملية الناضجة: لا شكوى، ولا تذمر، بل مواجهة داخلية صادقة.
- "مثلما ينبغي أو يليق بنسرٍ جريح"
ربما يكون هذا هو بيت القصيد في نظري، حيث جمع الشاعر بين الكرامة والانكسار.
النسر الجريح: رمز يستدل به على علوّ الهمة، والكرامة، والألم في آنٍ واحد. فالنسر لا يتعافى وسط السرب، بل في العزلة، وهذا يعكس روحًا سامية تتألم دون أن تتنازل عن كرامتها.
برع الشاعر إيقاعيا في استخدام جمل قصيرة، مشحونة، ومشدودة، ونبرة تحمل مزيجًا من الحزن والسمو، وهو ما يعكس عمق المشاعر التي تكتنف القصيدة.
الدلالات الإنسانية:
القصيدة تتناول تجربة إنسانية عميقة، تتكرر في حياة كثيرين:
عندما تضيق الروح بما يحيط بها، وتخيب الآمال في الآخرين، ويصبح الانسحاب هو الخيار الأكثر احترامًا للذات من البقاء في وضع غير مُرضٍ، حينها يكون "التخلّي" قرارًا واعيًا، وليس هروبًا.
قصيدة "تخلّ" لا تصرخ، ولا تشتكي، ولا تتهم، لكنها تقول الكثير بهدوء.
هي صوت الكائن الذي يختار الصمت بديلا عن الخضوع، والعزلة بديلا عن الاندماج السطحي، والكرامة مقابل التبعية.
قصيرة، لكن عميقة كعمق الجرح الذي يحتاج إلى عزلة النسرل لتداوي وتذاته.
بقلم عزمي علي بلة
(كاتب سوداني و روائي و قاص)