إعداد - نصر البوسعيدي
لا تُخلد أسماء العظماء إلا بأفعالهم وعدلهم وسيرتهم الحسنة التي ستصبح يوما قدوة للكثير.
وكم نحن بحاجة في عصرنا الحديث لنسلط الضوء على سيرة الأجداد في التعاطي بحزم مع الفساد وبتره ولو كان ذلك بحق أي مسؤول لا يؤدي الحق لأصحابه دون مجاملة أو محاباة لأحد، فالأوطان تصبح قوية متماسكة بالعدالة التي يجب أن يتساوى من خلالها الجميع.
وهنا سنحكي لكم عن سيرة حاكم عُمان الذي سجن أحد أهم وزرائه من أجل قصاب لحم في الرستاق.
وتعود أحداث هذه الواقعة في أيام حكم الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي (1749 - 1783م) في الوقت الذي كان فيه الوضع السياسي بعُمان سيئا للغاية، والحروب الطاحنة التي عصفت بالبلاد كانت مؤلمة، والغزو الفارسي لها زاد الأمر سوءا، ولكن شاءت الأقدار أن يصبح الأمر لهذا الحاكم الشاب الذي حرص على توحيد البلاد واستتباب الأمن وكسب محبة وود شعبه وكبار العلماء للسير نحو الهدوء والاستقرار بعد كل الذي حدث.
وتوثق المصادر التاريخية تلك الواقعة التي قام بها أحد وزراء الإمام في الرستاق وهو المسؤول والمعني عن الجند في عاصمة عمان التي كانت حينها مدينة الرستاق، وكان هذا الوزير حينما يأخذ اللحم من القصاب يدفع المال بعد يومين واستمر هذا الحال حتى قام المذكور بشراء لحم كثير وجعل يراكم ما عليه من الأموال حتى بلغت 500 محمدية (عملة فضية كانت تستخدم في عُمان)، وتأخر في سدادها للقصاب، فقام الأخير بمطالبته بدفع قيمة اللحم أكثر من مرة، وتسبب ذلك بغضب الوزير الذي شعر بالإهانة وتوجه مباشرة إلى محل القصاب ليقوم تحت حماية عسكره برمي اللحم في التراب والرماد ليتلفه.
لم يكن للقصاب أي حيلة كان صامتا يشاهد بحزن ما يحدث لمصدر رزقه من قبل مسؤول حاز ثقة الإمام ليحرس الرعية بعسكره ولا يظلم أحدا منهم في وطن كان يسعى أن يرسخ فيه أحمد بن سعيد العدالة والاستقرار.
لم يجد ذلك المسكين سوى الذهاب إلى أحد مشايخ وعلماء الرستاق الأجلاء يشكو له، فتوجه إلى الشيخ سليمان بن ناصر الشقصي الذي كان كبير قومه، فأخبره بما حدث، فقام الشيخ بدفع المبلغ كله للقصاب وأمره ألّا يخبر أحدا من العامة بالحادثة من أجل عدم إحداث أي فوضى أو فتنة، وقال له ألّا يمنع اللحم عن الوزير إن أتى مرة أخرى للشراء، ففعل القصاب ما أمره به الشقصي.
في المقابل كان هذا الشيخ الجليل يذهب في كل جمعة للصلاة خلف الإمام في حصن الرستاق بمسجد البياضة الذي يجتمع فيه الإمام والناس سويا للصلاة، وبعد الحادثة التي علم بها الشيخ، وجه رسالة عتب للإمام بطريقته الخاصة فلم يذهب لصلاة الجمعة ومعه أصحابه، فاستنكر ذلك ليسأل مباشرة عن الشيخ حينما افتقده وعلم بأنه بصحة وعافية.
احتار الإمام أحمد بن سعيد وهو يعلم في نفسه أن هذا الحدث كبير وليس من السهولة أن يمتنع الشقصي وهو كبير قومه من القدوم لصلاة الجمعة كعادته، فأمر كبار مقربيه وهو يتقدمهم للذهاب مباشرة إلى منزل الشيخ سليمان للاطمئنان عليه وعلى حاله.
وحينما وصل له الإمام وتصافحا قال له: "لقد أوحشتنا أيها الشيخ بتخلفك عن الصلاة، فما عندك. من الشأن أخبرني؟!".
فأخبره الشيخ عن ما فعله وزيره بقصاب اللحم. فقال الإمام: وهل عندك شيء غير هذا؟ فقال الشيخ: "لا والله، وإن هذا عندي لشأن عظيم فما عذرك بهذا الإهمال عن رعيتك، وهل يسعنا أن نصلي خلف إمام قد أهمل حق رعيته، فصاروا يُظلمون ويُهضمون، ومن يظلمهم ويهضمهم هو أمير على عسكر حصنه؟!". فقال له الإمام متعجبا: ما علمت بهذا الشأن إلا الآن، فطب نفسا، وقر عينا، ففي الغد إن شاء الله ليأتيك الخبر عما تقر به عينك وتطيب به نفسك".
ثم ودعه وعاد إلى قلعة الرستاق مقر الحكم غضبان واستدعى وزير عسكره مباشرة، وحينما حضر هذا الوزير قال له الإمام: يا خبيث ماذا فعلت بالرجل القصاب؟! فارتبك وارتعد من الخوف ليطلب من سيده الصفح، فأمر الإمام بتقييده وحبسه وألزمه بدفع ما عليه للقصاب وهو محجوز لديه، فأتى أهله بالدراهم المطلوبة واستدعى الإمام القصاب ليأتي في حضرته ويجبر وزيره على الاعتذار ودفع ما عليه من المال، وحينما اطمأن الإمام على رضا القصاب انتصارا لحقه وكرامته في حضرته، تم الزج بالوزير في السجن مقيدا.
وبعدها ذهب القصاب إلى شيخه ليبشره بما جرى، ويرجع له الـ500 محمدية، فاطمأن الشقصي وأسعده فعل الإمام بعدله وصرامته.
وفي صلاة الجمعة التي تلت هذا الحدث حاول الشيخ أن يتوسط لإخراج هذا الوزير من السجن، فرفض الإمام وقال له: "هيهات أن أطلقه من القيد والحبس حتى تمضي عليه سنة من يومنا هذا".
وبالفعل وبعد عام كاملا تم إطلاق سراحه وعزله من منصبه ليصبح عبرة لجميع من يتبوأ مسؤولية الإشراف على مصالح الرعية وتحقيق مبدأ العدالة التي حرص الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي على تطبيقها في عُمان بعد شتات وخراب وحروب أهلية هلك فيها الكثير.
هكذا كان الإمام يستمع للجميع ويحاكم ويعاقب كل مقصر وكل ظالم من بطانته، لأن الوطن واستقراره لا يحتمل أخطاء واستغلالا للسلطة كهذه.
وهكذا كان في المقابل علماء عُمان وأهلها لا يجاملون أحدا ومواقفهم مشرفة لأنهم يعلمون تماما أن من أجل الصالح العام الجميع سواسية وأن إعانة الحاكم بالنصح والإرشاد وتوجيه الملاحظات ومعالجة الأخطاء مباشرة وبكل صرامة هي من أساسيات بناء أي دولة قوية أرادت أن تصمد في وجه المتغيرات والأخطار.
المرجع: ابن رزيق، حميد بن محمد (ت1274هـ)، السيرة الجلية سعد السعود البوسعيدية، تحقيق عبدالرحمن بن سليمان السالمي، 2017م - وزارة التراث والثقافة – سلطنة عُمان.