إعداد: نصر البوسعيدي
انتشر الخبر في عُمان بأن أحمد بن سعيد البوسعيدي إمام عُمان وسيدها قد قُتل في معركة البثنة لتهتز البلاد وتظهر أحقاد الشامتين وأطماع الانقلابيين لنيل السلطة!
حينما استطاع الإمام أحمد بن سعيد حماية صحار وكسر شوكة العجم في نهايات فتنة الصراع على السلطة بين أفراد البيت اليعربي، اختاره أهل عُمان لشجاعته وبسالته إماما عليهم وحاكما للبلاد بداية من عام 1744م.
استطاع الإمام أحمد منذ بداية بيعته أن يوحّد البلاد من الانقسامات التي كانت تعصف بالوحدة الوطنية بالإضافة إلى استطاعته كسر شوكة الأطماع الفارسية وإخماد بعض حركات التمرّد في مدن ساحل عُمان المتصالح، كتلك المعركة الكبيرة التي حدثت بينه وبينهم في مدينة البثنة والتي انتهت بمقتل الكثير من الطرفين.
في ظل هذه الأحداث وحينما كان الجيش عائدا من المعركة للبريمي انعزل عنهم الإمام وأمر مقربيه سرا بالتوجه إلى صحار، أما هو فقد ذهب إلى الظاهرة لغاية في نفسه والتي كانت تضم ما بين معارض لسلطته لصالح البيت اليعربي وما بين مؤيد له، حتى خطرت له فكرة حينما وصل إلى مدينة ينقل كان يريد من خلالها أن يرى بأم عينه ويتأكد من أعدائه والمندسين بين حلفائه والذين كانوا محط شك لديه منذ بداية فترة حكمه وخاصة العديد من رؤساء القبائل بالظاهرة ومعهم بلعرب بن حمير اليعربي.
لم يظهر الإمام أحمد لعوام الناس وظل متخفيا، وفي جنح الظلام خرج متجولا في أطراف المدينة والتقى بمسنة عمانية لا تذكر المراجع التاريخية اسمها للأسف رغم الدور الخطير التي لعبته في مرحلة مهمة من تاريخ عمان بعهد الإمام الذي خاطبها ليعرفها من أي مكان هي ومن أي عرب، فأجابته بأنها من أهالي ينقل وحيدة فقيرة الحال بعدما فقدت جميع عائلتها ولا تملك إلا منزلا بسيطا للغاية متهالكا، وهنا عرّفها الإمام بنفسه وطلب منها بعدما أكرمها بالمال بأن تخفيه في بيتها سرا دون أن تخبر أحدا بعدما سرّح ناقته وبها من الزاد والأغراض ما يشير إليه حينما يجدها أحد العامة، فناقته كانت معروفة لدى الكثير من أصحابه.
وبالفعل سرّح الإمام أحمد بن سعيد ناقته واختبأ ببيت هذه المرأة والتي أصبحت فيما بعد جاسوسته التي تأتيه بالأخبار دون أن يشعر بها أي احد أو يشك بأمرها.
في الطرف الآخر وجد الناس ناقة الإمام وتعرّف عليها بعض أتباعه في ينقل وظلوا حائرين لا يعلمون ما الذي حدث له وهل هو على قيد الحياة؟ لتنتشر بعد أيام شائعة مقتل الإمام في معركة البثنة أو أثناء عودته منها.
ولأن أحمد بن سعيد كان متريّثا لتطبيق خطته وانتشار شائعة مقتله أوصى تلك المرأة العجوز بأن تصبح جاسوسته ومخبرته السرية في أنحاء المدينة لتنقل له أخبار ما يحدث عند أكابر القوم بعدما تتقصّى الأخبار جميعها، واستطاعت أن تبلغه عن معارضيه الذين أخذوا يحتشدون خلف من كان يشك بولائه وهو بلعرب بن حمير اليعربي المقيم ببلدة البزيلي بالظاهرة والذي وما أن وصلته شائعة خبر مقتل الإمام حتى أخذ يجمع أتباعه لنيل السلطة وحكم عمان واحتلال نزوى والإعلان بأحقيته في الحكم.
وهذا ما حدث فعلا فقد توجّه بلعرب والحشود التي معه والمقدّرة بـ20 ألفا إلى نزوى وعسكر في فرق تحديدا وأعلن بأنه حاكم للبلاد.
لم ينتظر الإمام أحمد بعدما وجد كل الأخبار تأتيه بالتفاصيل من مخبرته، حتى انطلق ليلا إلى صحار وبدأ بجمع جيوشه للتوجه إلى نزوى وملاقاة خصمه في السلطة، وتحرّك الجيش الذي عانى كثيرا من عصابات الكر والفر في بدبد وسمائل من قبل المعارضين له ولكنه استطاع أن يقضي عليهم مواصلا مسيرته إلى نزوى وهناك وعلى أطرافها التقى بواليه الذي ولّاه على سمد وجعلان وبدية واسمه عبدالله بن محمد السعيدي الذي وصلته رسالة الإمام لحشد الجيوش لهذه المعركة، وبعد أن اكتملت الصفوف ورغم معرفة بلعرب بأن الإمام حي يرزق رفض الإذعان لسلطة الدولة وأعلن مواصلة الحرب وأحقيته في نيل السلطة لحكم عُمان، لذا اشتبك الجيشان بمعركة دموية عنيفة انتهت بمقتل بلعرب وأكابر قادة جيشه مع أسر الكثير من المتمرّدين الذين عفى عنهم الإمام فيما بعد، ودانت له جميع البلاد دون منازع.
لم ينسَ سيد عُمان فضل تلك المرأة أبدا فقد أكرمها خير إكرام وبذل لها المال والعطاء وخلّصها من حياة الفقر والحاجة لكتم سره والدور الوطني الذي قامت به لكشف قادة التمرّد وتحرّكاتهم، وأصبحت من الذين يسأل عنهم وعن أحوالهم، وهذه من عاداته طوال حياته لا ينسى الفضل أبدا مثلما دوّن التاريخ سيرته، لدرجة انه في يوم من الأيام وبعد أن أصبح حاكما للبلاد توقّف هو وأصحابه أمام شجرة ميتة كان منذ فترات طويلة من حياته يستظل تحتها، فسأله أصحابه ما الذي يجعلك تتوقف وتقعد أمام شجرة ميتة وتترك بقية الشجر ذي الظلال الوارفة، فقال لهم الحر لا ينسى الفضل أبدا للأحياء والأموات، ولن تصبح حرا إلا إن كنت فعلا حافظ الود لا تنسى فضل الإحسان ولو كان صغيرا، وهذه الشجرة كانت تظلني حينما كنت بسيطا فكيف أنسى فضلها وأنا الآن إمام المسلمين.
ومن خلال ما مضى نجد أن للمرأة العمانية أدوارا سياسية مختلفة في عُمان وما سيرة هذه المرأة إلا مثال بسيط على ذلك، فمن كان يتخيّل بأن امرأة مسنة ووحيدة وفقيرة للغاية تصبح من أهم جواسيس حاكم عُمان ومخبرته السرية وسط المتمرّدين والشامتين ضد سلطة الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي والتي استطاعت بكل أمانة أن تلعب دورا مهما في أحداث التمرّد وتلك الأوقات العصيبة من تاريخ الوحدة الوطنية وتحفظ سره وتخفي في منزلها البسيط أهم شخصية أسّست أقدم أسرة عربية تحكم حتى الآن.
المرجع: الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين ج2(1198-1291هـ)، حميد بن رزيق بن بخيت النخلي العماني، تحقيق أ.د محمد حبيب صالح، د.محمود بن مبارك السليمي، الطبعة السادسة 2016م، وزارة التراث والثقافة - سلطنة عُمان.