علي المطاعني يكتب: التعمين يوم القيامة!

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٩/أغسطس/٢٠٢٥ ٢٠:١٥ م
علي المطاعني يكتب: التعمين يوم القيامة!
علي بن راشد المطاعني
مع بدايات عملي الصحفي، التقيتُ المغفور له –بإذن الله تعالى– البروفيسور الدكتور/ مسلم البوعلي مؤسس طبّ الأطفال، وواحدا من أعمدة الصحة في سلطنة عُمان، في فعالية أداء قسم اليمين لدُفعة من الأطباء العُمانيين الخريجين من جامعة السُّلطان قابوس، سألته: متى سوف نرى الكوادر الوطنية في مستشفياتنا؟ ومتى نرى التعمين مكتمل الأركان في المؤسسات الصحية؟ فردَّ بعفوية وبسرعة: (يوم القيامة)؟
استغربتُ من ردّه آنذاك وسألته مرة أخرى: كيف ذلك يا دكتور؟ فشرح لي قائلًا إن تخريج 50 طبيبًا سنويًّا آنذاك من الجامعة لن يُغطِّي الحاجة المتزايدة للأطباء في ظل التوسع في المؤسسات الصحية العلاجية.
 وفي المقابل ينسحب هذا على كل القطاعات الاقتصادية في البلاد في ظل توافر عمالة وطنية فيجب أن يمنع الوافد من العمل وإنهاء إقامته من البلاد عند توافر المواطن، وإلا سنواجه إشكالية كبيرة في هذا الجانب، الأمر الذي يتطلب أن نعمل بشكل دقيق لحلحلة هذا الملف مهما كلف الأمر.
فالتنمية في سلطنة عُمان تقوم على الأولوية للمواطن وتوفير حياة كريمة له وهو ما نصّ عليه النظام الأساسي للدولة، وتوفير العمل الأساس والأهم لممارسة حياة كريمة، وهذا ما يجب أن ندركه جميعا قبل فوات الأوان ولا نساوم عليه أو نماطل في تنفيذه.
فاليوم على سبيل المثال كم من المهن التي حُظرت على الوافدين ولم تُنفذ كأنها حبر على ورق.. ونسأل الجهات المنظمة للعمل والإقامة في البلاد عن الذين حظرت أعمالهم لماذا هم باقون ولماذا بعضهم يبقى بمسميات وظيفية أخرى... هذا ما يجب التحقيق فيه من جهات مستقلة كجهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة والجهات الأمنية.
  فهل تتوقعون أن يسمح الوافد للمواطن بأن يحل محله وهو في البلاد؟ هذه هي الإشكالية التي لم تستطع الحكومة حلّها، إلا بعض المهن مثل سائقي سيارات الأجرة وسيارات المياه والغاز وغير ذلك لم يحصل.
فبَين فَيْنة وأخرى، أستذكر كلام هذا الحكيم الدكتور البوعلي وأُسقِطه على الواقع، فأراه حقيقةً ماثلةً تتزايد يومًا بعد آخر، وأتألم كثيرًا من هذا الواقع الذي يعيشه أبناؤنا، إلى أن وصل الحال بالمقيمين أن يمرحوا في كافة الأنشطة على الرغم من أن أفواج الخريجين تتزايد يومًا بعد يوم دون أن نحرك ساكنًا على أرض الواقع بشكل حقيقي وفعّال لاستيعابهم.
أستذكر كلام البروفيسور مسلم البوعلي وأسأل: أين الخلل في هذا الجانب؟ أو ليست هناك مفارقة كبرى؛ أن يكون بيننا أطباء أو مهندسون ومحاسبون وغيرهم ممن يبحثون عن عمل، في حين أن معدلات التعمين في القطاع الخاص لا تلامس سقف الـ20 في المائة؟! وقِسْ على ذلك كل المجالات.
إذن، وبالتأكيد وبالمنطق الحصيف، هناك حلقة مفقودة يتعيَّن استعادتها في هذا الشأن، وبأي ثمن، وهو أمر يتطلَّب تحرُّكًا حكوميًّا مشتركًا مع القطاع الخاص لمعالجة هذه الحالة المستعصية، مع اليقين بأن الحل ليس مستحيلًا متى توافرت الإرادة وانبرت العزيمة للتصدي لها؛ عندها فقط، يمكننا القول إن التحول في مسار التعمين سيُحقِّق أهدافه المرتجاة، وفي كافة مرافق الدولة ومؤسساتها.
إن توفير الوظائف في كل القطاعات الاقتصادية يحتاج إلى معالجة جذرية لهذه المعضلة التي باتت تُؤرِّق المجتمع، وتحتاج إلى تقييم دقيق ومستقل يعطي قيادة البلاد الصورة من كافَّة جوانبها، ولا يترك الحبل على الغارب حتى تقع الفأس بالرأس كما يقال.
في الواقع، هناك الكثير من التحديات التي تُواجِه أبناء البلاد في الحصول على عمل في وطنهم للأسف؛ ليس لقلّة الأعمال أو الوظائف، وإنما لمُزاحَمة الآخَرين لهم في عقر دارهم، وهذا يحدث بعلم الجميع للأسف والوصول بالأمور إلى مستويات يصعب فهمها وهضمها اجتماعيًّا على الأقل؛ إذ بالإمكان استيعاب خريجين بجَرَّة قلم كما يُقال، ولكن جَرَّة القلم هذه، التي نراها بسيطةً وسهلةً هكذا نظريًّا، تحتاج في الواقع إلى المُفتقَد واللاموجود وغير المتوافر؛ وهي (الإرادة)، وهي العصا اللامحورية التي نتمنَّى أن نراها مُتوهِّجةً وفاعلةً في يد متخذ القرار.
ويبدو، والحال كذلك، أن تكهُّن المغفور له –بإذن الله– البروفيسور مسلم البوعلي كان صحيحًا عندما قالها بلسان الواثق بنفسه، وهو يقول: (التعمين يوم القيامة)؛ ليس لعدم وجود كوادر وطنية، بل لأسباب أخرى، ربما تكون إدارية تُضَاف إلى عقبة الإرادة الكأداء التي أشرنا إليها، ومنها مراعاة (الآخَرين) على حساب أبناء الوطن الذين عليهم أن يسيحوا في الأرض بحثًا عن عمل في غير بلادهم؛ وكما يُقال: بلدك ليست التي تُولَد بها بالضرورة، وإنما التي تُرزَق فيها.
لنُقِرَّ، كحقيقة مُثلَى، بأن الإغراق في سوق العمل، على ما يبدو، نتائجه وعواقبه مؤلمة؛ فلا يمكن أن نتصوَّر اكتمال عقد التعمين في ظل هذه الأوضاع حتى يوم القيامة، ونحتاج إلى دليل على ما يبدو، لإثبات عكس ما تنبَّأ به الدكتور البوعلي.
وفي الجانب الآخر نرى منظومة تدريب المواطنين يجب أن تكون من المهد إلى اللحد وعلى نوعين: قصيرة المدى وتتمثل في إعداد برامج تدريب لكل الباحثين عن عمل بشكل ممنهج لتأهيل كل مواطن في الوظائف والمهن باستمرار وفق برامج محددة للإحلال والارتقاء بقدراته ومؤهلاته. وطويلة المدى وتتمثل في هيكلة التعليم وضبط تقويمه بما يفي بمتطلبات التنمية، فليس هناك سبيل لنا إلا تأهيل أبنائنا لغد مشرق وبناء وطنهم بأنفسهم فهذا الهدف الذي يجب أن نسعى إلى تحقيقه.
أما منظومة ريادة الأعمال فهي الأخرى تحبو كالسلحفاة عند تمكين أعداد محدودة من المواطنين في حين أن أفواج الباحثين عن عمل بمئات الآلاف تنتظر من يأخذ بيدها، فالمنهجية المطبّقة هي لذر الرماد في العيون أن هناك ريادة الأعمال، حتى إن نتائجها غير مجدية اقتصاديًّا لإعادة هيكلة التشغيل الذاتي في البلاد، وتكلفتها التشغيلية عالية ماليًّا مقارنة مع العائد منها وتحتاج إلى إعادة نظر في اختصاصاتها ومهامها.
  يجب أن تكون لدينا جدية عالية في حظر المهن على المقيمين التي يمكن أن يشغلها المواطنون وتنفيذ القرارات بشكل حازم؟ وتعزيز التشغيل الذاتي بشكل محكم من خلال توفير الممكنات مثل حظر عمل الوافدين من المنافسة غير المتكافئة للمواطنين وإيجاد كل السبل الدعم للأعمال الحرة للشباب العماني بالإضافة إلى التدريب المستمر ومتابعة رواد الأعمال لتعمل كل الجهات والمحافظات على بلورة خطط إحلال واضحة.
نأمل أن ننتبه إلى هذه القضية المقلقة لنا جميعًا، وأن نُدقِّق في الأرقام النهائية بعد تصفية كل الحسابات؛ لكي تتضح لنا الحقيقة، وأن ندرك أن ريع دوران عجلة التنمية يتعيَّن أن يعود على المواطن؛ لأنه هو أصلًا من المواطن؛ أي الريع أو الشهد أيهما أقرب للاستحسان، وأن الحياة الكريمة، كمعنى ومغزى، هي التي تعمل الدولةُ جاهدةً لتنزيلها كمكتسبات أولية لذات المواطن لإسعاده، وأن تلك الأماني أو الأمنيات ستغدو متاحةً متى تم القضاء على معضلة الباحثين عن عمل وفي ظل وجود عمل يُشغل من الآخرين.
اللهم هل بلّغت؟ اللهم فاشهد!