إعداد : نصر البوسعيدي
انه لمن المدهش أن نجد أن العرب القدامى يوثقون الأحداث والسير وأشهر قصص المحبة والغرام التي كانت مخلدة عبر أشعار قائليها الوسيلة الأكثر صمودا في التاريخ والتي تناقلها الادباء جيلا بعد جيل.
لقد ذكر لنا التاريخ وخاصة في العصر العباسي أشهر قصة حب ناقصة وغدت فيما بعد من طرف واحد، كان بطلها الشاعر العماني و«دنيا»، في حكاية حب لم تكتمل؛ نتيجة عدم تمكنه من الزواج بها لعسر حاله المادي، بمن أخلص لها وظل وفيا لحبها طوال دهره يذكرها حتى آخر حياته تارة يتغزل بها وتارة يعنف صدها وتارة يستنجد بها في هجائه لمن أغضبه بعدما اجتمعا وتفرقا نتيجة ما سبق.
إننا نتحدث هنا عن أشهر شعراء العصر العباسي في الغزل والهجاء والذي يعود اصله إلى عُمان وهو محمد بن أبي عُيينة ابن القائد العماني المعروف المهلب بن أبي صفرة الأزدي الذي يعود أصله إلى مسندم وتحديدا ولاية دبا.
وسنستمد سيرة هذا العماني المهلبي من خلال ما كتبه أبو الفرج الأصفهاني قبل ألف سنة في كتابه المعروف (الأغاني) حيث يقول فيه بتصرف من أجل الاختصار:
ابن عُيينة هو محمد بن أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة، وأبي صفرة ظالم بن سراق وقيل غالب بن إسراق بن صبح بن كندي بن عمرو بن عدي بن وائل بن الحارث بن العتيك بن الأسد بن عمران بن الوضاح بن عمرو بن مزيقياء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن زاد الراكب بن الأزد، وهذا هو النسب الذي عليه آل المهلب وأصلهم من عُمان وتولوا الأزد.
وقال عبدالله بن عياش الهمداني: وفد ابن الجلندى في الأزد، أزد عُمان ومواليهم وأحلافهم فكان فيمن وفد منهم أبو صفرة، وكان يلقب بذلك لأنه كان يصفر لحيته.
وأبو عيينة شاعر مطبوع ظريف غزل هجاء، وأنفذ أكثر أشعاره في هجاء ابن عمه خالد، وهو من شعراء الدولة العباسية ومن ساكني البصرة.
وأخبرني عيسى بن الحسين الوراق ومحمد بن يحيى الصول وعمي قالوا حدثنا الحزنبل الأصبهاني قال: حدثني الفيض بن مخلد مولى أبي عُيينة بن المهلب قائلا:
كان أبو عُيينة محمد بن أبي عُيينة يهوى فاطمة بنت عمر بن حفص الملقب هزار مرد، وكانت امرأة نبيلة شريفة، وكان يخاف أهلها أن يذكرها في شعره تصريحا ويرهب زوجها عيسى بن سليمان، فكان يقول الشعر في جارية لها تسمى «دنيا».
وقال محمد بن يزيد: كان أبو عيينة أصغر من أخيه عبدالله، ومات قبله، وقيل لعبدالله: أنت أشعر أم أخوك؟!
فقال: «لو كان له علمي لكان أشعر مني، وكان يتعشق فاطمة بنت عمر بن حفص هزار مرد التي تزوجها علي بن سليمان، ويُسر عشقها، ويلقبها بدُنيا كتمانا لأمرها، وكانت امرأة جليلة نبيلة سرية من النساء، وكان أبوها من أشد الفرسان وشجعانهم».
وقد كان أبو عُيينة ينشد عن حبه لفاطمة وهو يلقبها مثلما ذكرنا بـ «دُنيا» ويقول مثلما ورد في كتاب الأغاني للأصفهاني:
ما لقلبي أرق من كل قلب
ولحبي أشد من كل حب
ولدنيا على جنوني بدنيا
أشتهي قربها وتكره قربي
نزلت بي بلية من هواها
والبلايا تكون من كل ضرب
قل لدنيا إن لم تجبك لما بي
رطبة من دموع عيني كتبي
وقال فيها كذلك معاتبا بعدها وزواجها بغيره:
ضيعتِ عهد فتى لعهدك حافظ
في حفظه عجب وفي تضييعك
ونأيت عنه فما له من حيلة
إلا الوقوف إلى أوان رجوعكِ
ونعود للأصفهاني وما كتبه قائلا:
أخبرني علي بن سليمان قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: قال محمد بن أبي عيينة أخو أبي عيينة في فاطمة بن عمر بن حفص لما تزوجها عيسى بن سليمان بن علي، وكان عيسى مبخلا وكانت له محابس يحبس فيها البياح (السمك الصغير) ويبيعه، وكان له ضيعة تعرف بدالية عيسى يبيع منها البقول والرياحين، وكان أول من جمع السماد في البصرة وباعه، فلما تزوج عيسى بفاطمة، قال شاعرنا أبو عيينة في ذلك غضبانا لفقد محبوبته:
أفاطم قد زُوجت عيسى فأبشري
لديه بذل عاجل غير آجل
فإنك قد زُوجتِ عن غير خبرة
فتى من بني العباس ليس بعاقل
فإن قلتِ من رهط النبي فإنه
وإن كان حر الأصل عبد الشمائل
وأنشد مكملا:
وما قلت ما قالا لأنك أختنا
وفي البيت منا والذرا والكواهل
لعمري لقد أثبته في نصابه
بأن صرتِ منه في محل الحلائل
وقد صرح هذا الشاب العماني الثمل المخلص بحبه لفاطمة يوما عن قرابته بها، فيقول الأصفهاني في كتابه مواصلا السرد: وقال محمد بن يزيد: ومما قاله في فاطمة وصرح بذكر القرابة بينهما وحقق على نفسه أنه يعنيها قوله:
دعوتك بالقرابة والجوار
دعاء مصرح بادي السرار
لأني عنك مشغول بنفسي
ومحترق عليك بغير نار
وأنت توقرين وليس عندي
على نار الصبابة من وقار
حتى قال:
ألا يا وهب فيم فضحت دنيا
وبحت بسرها بين الجواري
وقال فيها وهو من ظريف أشعاره:
رق قلبي لك يا نور عيني
وأبى قلبك لي أن يرقا
فأراكِ الله موتي فإني
لست أرضى أن تموتي وأبقى
حتى قال:
زعموا أني صديق لدُنيا
ليت ذا الباطل قد صار حقا
ويقول الأصفهاني: ومما قاله أبو عُيينة في فاطمة هذه وكنى فيها بدنيا قوله:
ألم تنه قلبك أن يعشقا
ومالك والعشق لولا الشقا
أمن بعد شُربِك كأس النهى
وشمك ريحان أهل التقى
عشقت فأصبحت في العالمين
أشهر من فرس أبلقا
أدنياي من غمر بحر الهوى
خذي بيدي قبل أن أغرقا
أنا ابن المهلب ما مثله
لو أن إلى الخلد لي مرتقى
ولقد كانت أشعاره جميعها مخلدة ويتناقلها العرب ويغنونها في مجالسهم لتصل إلينا هنا عبر الأصفهاني الذي يواصل سرد سيرة أبي عيينة العماني وهو يقول في محبوبته التي شغلت حكايتها في زمانه أغلب الأدباء العرب:
أنا الفارغ المشغول والشوق آفتي
فلا تسألوني عن فراغي وعن شغلي
عجبت لترك الحُب دنيا خلية
وإعراضه عنها وإقباله قُبلي
وما بالها لما كتبت تهاونت
بكتبي وقد أرسلت فانتهزت رسلي
حتى قال:
ولما بلوتُ الحب بعد فراقها
قضيت على أم المحبين بالثكل
وأصبحت معزولا وقد كنت واليا
وشتان ما بين الولاية والعزل
ومما قاله فيها كذلك:
ألا في سبيل الله ما حل بي منك
وصبرك عني حين لا صبر لي عنك
وتركك جسمي بعد أخذك مهجتي
ضئيلا فهلا كان من قبل ذا تركي
فهل حاكم في الحب يحكم بيننا
فيأخذ لي حقي وينصفني منكِ
ويكمل الأصفهاني في كتابه (الأغاني) ويقول: أخبرني عمي قائلا حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال: سألت أبي عن دنيا التي ذكرها أبو عيينة في شعره، أن قوما يقولون إنها كانت جارية في البصرة، فقال: لا يا ابني هي فاطمة بنت عمر بن حفص هزار مرد بن عثمان بن قبيصة أخي المهلب بن أبي صفرة، وكان عيسى بن سليمان بن علي قد تزوجها.
وأنشدني أبي في تصديق ذلك وإنه كان يكني دنيا عن غيرها قائلا:
وكتمت أسمها حذارا من الناس
ومن شرهم وفي الناس شر
واسم دُنيا سر على الناس ذُخر
ثم قالوا ليعلموا ذات نفسي
أعوان دُنياك أم هي بِكرُ
فتنفست ثم قلت أبكر
شب يا إخوتي عن الطوق عمرو
ويكمل الأصفهاني قائلا:
أخبرني عمي قال: حدثني أحمد بن يزيد عن أبيه قال: لما ولي عمر بن حفص هزار مرد بالبصرة قال ابن أبي عيينة في ذلك وفي دنيا يكني بها فاطمة بنت عمر بن حفص صاحبته:
هنيئا لدنيا هنيئا لها
قدوم أبيها على البصرة
على أنها أظهرت نخوة
وقالت لي الملك والقدوة
قال: وهذا دليل على أنه كان يكني عن فاطمة بدنيا وفيها يقول:
يا حسنها لما قالت لي مودعة
لا تنس ما قلت من فيها من أذني
كأنني لم أصل دنيا علانية
ولم أزر أهل دنيا زورة الختن
جسمي معي غير أن الروح عندكم
فالروح في وطن والجسم في وطن
فليعجب الناس مني إن لي جسدا
لا روح فيه ولي روح بلا بدن
وقال كذلك يخاطب محبوبته مثلما يورده لنا الأصفهاني:
قل لدنيا بالله لا تقطعينا
واذكرينا في بعض ما تذكرينا
لا تخوني بالغيب صديقا
لم تخافيه ساعة أن يخونا
واذكري عيشنا وإذا تنفض الريح
علينا الخيري والياسمينا
إذ جعلنا الشاهِسرام فراشا
من أذى الأرض والضلال
من ناحية أخرى يورد الاصفهاني في كتابه الأغاني أن أبي عيينة قد هرب من البصرة إلى عُمان كونها موطن عائلته خوفا من الخليفة العباسي المأمون الذي غضب غضبا شديدا عليه لدرجة أنه هدر دمه لما هجا نزارا هجاء لاذعا، وبقى في عُمان مستقرا حتى وفاة المأمون.
ولقد أشتهر أبو عُيينة بالإضافة إلى قصة حبه وإخلاصه لفاطمة التي لقبها في أشعاره الخالدة بـ (دنيا) كذلك بهجائه المستمر لابن عمه خالد بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة والي جرجان حينما لم يوف وعده لابن عُيينة في أن يرفع من شأنه حينما طلب القدوم إليه إلى جرجان، فأهمله وأهمل مرتبه الشهري وتركه كجندي عادي في الجيش العربي هناك حتى ساءت حالته وشعر بالإهانة، لذا أخذ يهجوه في جل أشعاره ومنها:
يا خالد بن قبيصة هيجت بي
حربا فدونك فاصطبر لحروبي
لما رأيت ضمير غشك قد بدا
وأبيت غير تجهم وقطوب
وهكذا ظلت قصة حب وإخلاص هذا العماني لمحبوبته التي قاطعته نتيجة ابتعادها عنه وزواجها تتناقل بين العرب منذ قرابة ألف سنة وحتى يومنا هذا لتبقى شاهدة كمثال آخر على سيرة عُمان وأهلها في التراث العربي.
المرجع: موسوعة عُمان في التراث العربي في عيون الأدباء ج1، د. هلال الحجري، الطبعة الاولى 2018م،
الناشر: وزارة الإعلام – سلطنة عُمان، طباعة: بيت الغشام للصحافة والنشر والإعلان- مسقط