علي ناجي الرعوي
في اخر زيارة قمت بها لسلطنة عمان في شهر يناير 2015م للمشاركة في المؤتمر الخامس لاتحاد الصحافة الخليجية الذي استضافته جمعية الصحفيين العمانيين جمعتني الصدفة بالسفير المخضرم عبدالله احمد بادي سفير سلطنة عمان وعميد السلك الدبلوماسي بصنعاء السابق ولفيف من المثقفين العمانيين وخلال هذا اللقاء جرى حوار مطول حول الاوضاع العربية والأزمات والحروب والصراعات التي المت بالعديد من الاقطار العربية عقب موجة (الربيع العربي) وكذا الاسباب والبواعث التي كانت وراء الانهيارات المتفاقمة بالمنطقة العربية.
ولعل اهم ما في هذا الحوار انه الذي لفت نظري إلى بعض الزوايا والمعاني التي لم اكن قد التفت اليها في كل الزيارات التي قمت بها للسلطنة وبالذات اثناء محاولتي استشراف السر الذي جعل من عمان استثناءا ينعم بالأمن والاستقرار وروحية التعايش الداخلي وسط محيط عربي مضطرب ينخره سوس الشك والريبة والانقسامات الداخلية على اسس هوياتية ومذهبية وطائفية وكيف استطاع هذا الاستثناء ان لا يجعل المستقبل يتخطاه في حين نجد الكثير من ابناء جلدته في الخارطة العربية اما منقسما على نفسه او متنازعا مع ذاته او منشغلا عن همومه الداخلية في معارك عبثية ادمن عليها حتى الثمالة.
ولعلها المرة الاولى التي اعرف فيها ان ذلك التوازن الذي تتميز به سلطنة عمان لم يأت من فراغ وإنما هو نتاج وثمرة لفلسفة ومنهجية عصر النهضة الذي حمل مشعله السلطان قابوس على مدى 46 عاما دون ان يحيد عن هذا المنهاج الذي جعل منه اطارا فكريا متكاملا ليس فقط من اجل بناء دولة قادرة على تحقيق التفاعلات الصحيحة على نطاق التنمية والتطور الاقتصادي والتعليمي وبناء المجمعات السكنية والطرقات والأسواق والمنتزهات والمكتبات والأندية والفنادق والمسارح وجميع ما يحتاجه المجتمع من المرافق الخدمية والترفيهية والثقافية وإنما ايضا لحماية عمان وإنسانها من تبعات التخلف والبؤس وثقافة الصراعات والتنازع والانقسامات وكل المشاعر السيئة التي تؤدي إلى سلوكيات سيئة تفقد المجتمع مقومات التعايش وتدفع به إلى منزلقات التجاذب والتنابذ والغرق في منزلق بدائي خارج هوامش هذا العصر.
ومن هنا يصح القول ان عام 1970م كان نقطة تحول بالنسبة للشعب العماني فقد كان التاريخ بتولي السلطان قابوس بن سعيد مسئولية القيادة لعصر النهضة العمانية في حالة تأهب قصوى ويرمز إلى هذا التسارع النهضوي الطامح الذي حققته السلطنة في عقود وجيزة فيما نرى بلدان اخرى تعود القهقرى إلى الخلف ان لم تتجه إلى الخروج من مسرح التاريخ وإذا كانت تلك التجربة بما حملته من بوادر الاعمار وعلى النحو الذي انتقل بالشعب العماني من رواسب التخلف والتوقف المستمر إلى مصاف المجتمعات القادرة على التأثير في النسيج الاقليمي والدولي فان ذلك ما كان له ان يتحقق من دون قائد يعلي من قيمة العلم والتقدم ويضع كل شيء في مكانه المناسب وفي مرحلته التي يناسبها كجراح ماهر ومحترف يتسلح بالعقل والحكمة والبصيرة الثاقبة.
لقد ادرك السلطان قابوس من قراءاته المتعددة لشروط النهضة التي صاغها العديد من المفكرين العرب والأجانب ان النهضة ليست فقط مشروعات اقتصادية وتنموية ترتفع مؤشراتها حينا وتنخفض حينا اخر بل هي مشروع واسع وشامل لابد له من تربة تمنحه قابلية النمو والتطور وتجعل منه مشروعا متجذرا في الوعي الجمعي مدعوما بقيم حاكمة في المجتمع تعلو فوق الاشخاص والأشياء وقبل ذلك فلابد ان يكون هذا المشروع نابعا من ثقافة المجتمع العماني وهويته العربية والإسلامية حتى يمتلك ذلك المشروع ركائز التجذر في الواقع ويصبح قادرا على مجابهة كل التحديات العارضة والطارئة.
خلال بضع عقود وهي فترة قصيرة للغاية في حسابات التاريخ نجحت عمان بهذه المرتكزات ان تصنع المستقبل المشرق بعد ان اخذ الامل يتلألأ في افاق الوجود العماني الذي بات اليوم يتفاعل بعلمية معاصرة ذات قيمة وطنية وإنسانية من دون ادعاء او بهرجة او ضجيج اعلامي يتباهى به امام الاخرين حتى في اللحظة التي يلجأ اليه البعض للاسترشاد برؤيته حيال ما يتصل بإطفاء الحرائق المشتعلة في المنطقة.
لقد تجاوزت عمان التي تحتفل بعد عدة اسابيع بعيدها الوطني الـ 46 محنها حينما حصنت مسارها بمصفوفة من الثوابت الوطنية مما وفر امام ابناء شعبها الفرصة لاستيعاب استحقاقات النهوض بحيث ايقن هذا الشعب إلى ان الحياة تجري ولابد من الجريان المتوثب في تيارها الصاخب لتحقيق الارادة وتأكيد البقاء الحضاري المتميز وبناء الحاضر السليم وتعبيد دروب المستقبل بهدف توفير الفرص اللازمة لتحقيق الطموحات والتطلعات على جميع المستويات.
وفي صلب هذا التحول فما زلت اتذكر اثناء حضوري حفل افتتاح الفترة الخامسة لمجلس عمان في اكتوبر 2011م تلك العبارات التي وردت في خطاب السلطان قابوس في ذلك الحفل والتي افصحت عن الكثير من الحقائق الغائبة لدى البعض ممن يجهلون تفاصيل حالة النهوض التي تفجرت في هذا البلد الذي كان معظم ابناؤه حتى عام 1970م يهاجرون إلى بلدان الاغتراب بحثا عن مصدر للرزق حيث اشار السلطان إلى مجرى التحدي الذي خاضته عمان بقوله: إن بناء الدولة العصرية التي تعهدنا بإقامتها منذ اللحظة الاولى لفجر النهضة المباركة قد اقتضى منا بذل جهود كبيرة في شتى المجالات وفي مختلف المدن والقرى على امتداد الساحة العمانية من اجل اعادة الاعتبار للإنسان العماني وتمكينه في الوصول إلى العيش الكريم.
وأمام هذه المعجزة العمانية فلا عجب في ان تصبح عمان انموذج للدولة العصرية في منطقة تتجاذبها اعاصير الفوضى والاضطرابات وتردي الاوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتوجهات الفاشلة طالما وهي معجزة تعد فخرا لكل عربي ومصدر الهام يدلنا على انه ومتى ما توحدت ارادة الحاكم والمحكوم في اطار من التلاحم والتجانس والانسجام واستظل الجميع بشجرة الوحدة الوطنية وأوراقها الوارفة واصلها الثابت امكن انجاز الاهداف والوصول إلى الغايات كما هو شأن العمانيين الذين صنعوا دولة عصرية مكتملة البنيان تزخر بالحرية والنماء والتقدم والرخاء.