جيفري فرانكل
بعد ثماني سنوات من إشعال شرارة أزمة كادت تطيح بالنظام المالي العالمي، لا تزال الولايات المتحدة مبتلاة بقدر عظيم من الارتباك حول الإصلاحات المطلوبة لمنع تكرار الأزمة. وفي حين يستعد الأميركيون لاختيار رئيسهم القادم، تتجلى الحاجة الملحة إلى تكوين فهم أفضل للتغييرات السياسية الكفيلة بالحد من مخاطر الأزمات في المستقبل ــ وأي الساسة أكثر ميلاً إلى تنفيذها.
الواقع أن الأميركيين على يقين من أمر واحد، وهو أنهم غاضبون إزاء تصرفات القطاع المالي. وينعكس هذا في نجاح أفلام هوليود الأخيرة مثل The Big Short (الذي نال عن حق قدراً كبيراً من الإشادة لأنه جعل الأدوات المعقدة مثل المشتقات المالية مفهومة في الإجمال). كما ينعكس في حملة الانتخابات الرئاسية الحالية ــ وخاصة في الدعم الملحوظ لمحاولة السيناتور بيرني ساندرز اليسارية الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي.
في صميم حملة ساندرز يكمن اقتراح يقضي بتفكيك البنوك الكبيرة في وال ستريت إلى قِطع صغيرة، وبالتالي ضمان عدم وجود أي بنك كبير إلى الحد الذي قد يؤدي معه إفلاسه إلى تعريض بقية النظام المالي للخطر. والواقع أن جاذبية هذا الهدف مفهومة، ولكن تحقيقه يستلزم الاستعانة بمطرقة ضخمة.
فبرغم أن النظام المصرفي الأميركي كان يضم تاريخياً الآلاف من البنوك الصغيرة، فإن ظاهرة "أكبر من أن يُسمَح بإفلاسه" ليست جديدة تماما. فكان أول بنك يُعلَن باعتباره "أكبر من أن يُسمَح بإفلاسه" هو بنك كونتينينتال إلينوي، الذي حظي بخطة إنقاذ في عام 1984 من الرئيس رونالد ريجان. وبعد أن أصبحت البنوك الآن أكبر من أي وقت مضى ــ في عام 2011، كانت أكبر أربعة بنوك في أميركا تملك أكثر من تريليون دولار أميركي من الأصول ــ فإن تفكيكها إلى الحد الذي يجعل أي جزء من أجزائها غير مهم جهازياً عملية طويلة ومعقدة في أقل تقدير. ولن يكون إرجاع عقارب ساعة إلغاء القواعد التنظيمية ثلاثين عاماً إلى الوراء ببساطة أمراً واردا.ولكن حتى لو تمكن ساندرز بطريقة أو بأخرى من تفكيك البنوك بالدرجة الكافية، فإن هذا لن يحل المشكلة. فقد شهدت الولايات المتحدة التكالب على مؤسسات الإيداع في ثلاثينيات القرن العشرين، عندما كان نظامها المالي لا يزال يتألف من الآلاف من البنوك الصغيرة. ومع هذا فقد تمكنت كندا بنظامها المالي الذي تهيمن عليه بالكامل خمسة بنوك كبيرة فقط من الإبحار عبر عواصف الأزمة المالية العالمية في الفترة 2008-2009 بسهولة أكبر من أي دولة أخرى تقريبا.
ولنتأمل هنا مثال جاري جينسلر، الرئيس المشارك السابق لقسم التمويل في جولدمان ساكس، والذي حاول ساندرز (وفشل) منع تعيينه رئيساً للجنة تداول السلع الآجلة في عام 2009. في ذلك المنصب، وعلى نحو أذهل العديد من زملائه السابقين في وال ستريت، أنفق جينسلر خمس سنوات في العمل بكل قوة من أجل تنفيذ تشريع الإصلاح المالي، بما في ذلك السعي إلى التنظيم العدواني للمشتقات المالية. كما دعم جينسلر محاكمة خمس مؤسسات مالية تواطأت للتلاعب في سعر الفائدة بين بنوك لندن (السعر المعياري الذي تتقاضاه بعض البنوك الكبرى على القروض القصيرة الأجل في ما بينها).
ورغم أن مهاجمة البنوك ربما تكون أمراً مرضياً على المستوى العاطفي، فإنها لن تمنع الأزمات المالية. والواقع أن المشاكل الأكبر التي تواجه الصناعة المالية تكمن في مكان آخر: صناديق التحوط، والبنوك الاستثمارية، وغير ذلك من المؤسسات المالية غير المصرفية التي تواجه رقابة تنظيمية وقيوداً أقل صرامة (كتلك التي تفرض على معايير رأس المال والاستدانة). ولنتذكر هنا أن ليمان براذرز لم يكن بنكاً تجاريا، وأن المجموعة الدولية الأميركية كانت شركة تأمين.
وتدرك وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون ــ منافِسة ساندرز للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي ــ ضرورة إعطاء أولوية كبرى لتنظيم المؤسسات غير المصرفية، كما اقترحت اتخاذ تدابير محددة للقيام بذلك. فهي تدعو على سبيل المثال إلى فرض ضريبة صغيرة تستهدف أنواعاً بعينها من التداول العُرضة للتلاعب. وتسعى كلينتون أيضاً إلى سد ثغرة "الفائدة المنقولة" التي تسمح لمديري صناديق التحوط حالياً بسداد معدلات ضريبية أقل من أي شخص آخر تقريباً على دخولهم، وهي تقترح فرض "رسم المخاطر" على المؤسسات المالية الكبيرة والتي قد تنشأ مع نموها.
ويشبه رسم المخاطر الذي اقترحته كلينتون ذلك الذي تقدمت به إدارة الرئيس باراك أوباما في عام 2010 من أجل تثبيط الأنشطة الخطرة من قِبَل أكبر البنوك، وفي الوقت نفسه المساعدة في تعويض بعض الإيرادات التي تذهب لعمليات الإنقاذ. ولكن هذه الخطة أحبطت بسبب جهود ثلاثة من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين الذين أعلنوا استعدادهم لدعم تشريع الإصلاح المالي الحرج ــ قانون دود-فرانك لإصلاح وال ستريت وحماية المستهلك ــ ولكن فقط في حالة إسقاط الرسوم.
وحتى من دون فرض رسم المخاطر على البنوك الكبيرة، كان تشريع دود-فرانك خطوة في الاتجاه الصحيح. فبين أمور أخرى، عمل هذا التشريع على زيادة شفافية المشتقات المالية، ورفع متطلبات رأس المال المفروضة على المؤسسات المالية، وفرض قواعد تنظيمية إضافية على المؤسسات "ذات الأهمية الجهازية"، وباقتراح من عضو مجلس الشيوخ إليزابيث وارن، أسس هذا التشريع مكتب الحماية المالية للمستهلك.
جيفري فرانكل أستاذ تكوين رأس المال والنمو في جامعة هارفارد.