
بدأ المسار في منتصف يوليو، عندما تواصل معي العميد ركن بحري عبد الناصر بن أحمد العبري – رئيس التوجيه المعنوي والمراسم العسكرية – واقترح عليّ تقديم برنامج باللغة الإنجليزية عبر إذاعة الصمود. خلال تواصلنا، أخبرته بكل وضوح بأنني لا أملك خبرة سابقة في تقديم البرامج الإذاعية. فقال لي جملة شكّلت النقطة الأولى في هذا المسار: "مجال الإذاعة مجال واسع… والإنسان يطوّر مهارات كثيرة. وأنا متأكد من إمكانياتك، وإن شاء الله يكون البرنامج مميز."
بعد ما سمعت هذا الكلام، تحولت اللحظة إلى أكثر من مبادرة مهنية بالنسبة لي؛ كانت لحظة يسودها التقدير والثقة التي تُستشعَر قبل أن تُقال، فشبّهت تلك الثقة بالضوء الذي ينير دربًا جديدًا لم يكن حاضرًا في التخطيط الذهني بعد... الضوء الذي ينيره الآخرون لك؛ ففي تلك اللحظة تتضح لك صورٌ شتى وتستذكر كل ما مررت به في حياتك من تجارب لتقودك إلى مثل هذه الفرص المقدرة. وقد ترجمت هذا الاقتراح لا بكونه موجّهًا لي كفرد فحسب، بل بأنه امتداد لرؤية مؤسسة تؤمن بالشباب وقدراتهم، وتمنحهم ثقتها الكبيرة. كانت تلك الثقة بوصلة تشير إلى اتجاه لم أكن قد تصورته بعد، لكنها جعلتني أراها فرصة موجّهة لجيل كامل يبحث عمّن يمنحه مساحة لتطوير نفسه وإمكاناته، ومساحة ليبدع فيها، ومنصة تحفزه: انطلق... تعلّم... ونحن معك.
وأستذكر لحظة زيارتي الأولى لمقر إذاعة الصمود للقاء العاملين هناك. دخلتُ معسكر المرتفعة حيث تقع الإذاعة، وجاءني مباشرة شعور بالامتنان والانتماء. وكان لهذا الشعور جذوره، فوالدي خدم في سلاح الجو السلطاني العُماني طوال ثمانية وثلاثين عامًا، متنقلًا بين قواعد صلالة وثمريت ومصيرة، وكان معسكر المرتفعة آخر محطاته. وحين وجدتُ نفسي في المكان ذاته الذي أنهى فيه مساره المشرف، أدركت أن الدائرة التي اكتملت بخدمته قد شقت فتحا بصفحة جديدة تبدأ من حيث انتهى… صفحة تمضي فيها ابنته اليوم ولو بشكل مختلف، لكن بالنية ذاتها: خدمة الوطن.
وقد لمستُ خلال عملي مع فريق إذاعة الصمود مستوى رفيعًا من الاحترافية يُقدَّر بحق؛ احترافية تقوم على الإصغاء الحقيقي، والانفتاح على الأفكار الجديدة، والتعامل مع العمل بروح التعاون والرغبة الدائمة في التطوير. وقد رأيتُ منهم دائمًا ما يعكس جودة الأداء واتساع الأفق، وهو ما يجعل بيئة الإذاعة مساحة مهيّأة للنمو والتقدّم، ويبرز روح الفريق ودوره الأساسي في صميم رسالة قوات السلطان المسلحة.
ومع تطوّر الفكرة، بدأ البرنامج يتشكّل تدريجيًا؛ من أفكار على الورق، إلى مفهوم واضح، ثم إلى رؤية تحمل اسم (Within the Path) "في المسار". يتناول البرنامج مراحل التكوين: كيف تتشكّل الاتجاهات؟ كيف تُبنى القرارات؟ وكيف تتكوّن المؤسسات والأفراد عبر الأفكار والقيم والتجارب؟ ويقدّم رؤية متوازنة تجمع بين البحث والتحليل والتأمل. وبصفته أول برنامج باللغة الإنجليزية في إذاعة الصمود، فإن ذلك يعكس رغبة الإذاعة في مخاطبة جمهور أوسع ومن خلفيات متعددة. وفي 31 أغسطس من هذا العام، بثّت إذاعة الصمود أولى حلقات البرنامج، لتكون تلك اللحظة إعلانًا لبداية مرحلة جديدة من مسيرتها.
وعندما تعرّفتُ عن قرب على إذاعة الصمود، لفتني حجم المحتوى المعرفي الذي تحتضنه هذه الإذاعة، وتنوّعه، واتساع دائرته. فإلى جانب البث الإذاعي، راكمت الإذاعة أرشيفًا غنيًا من البرامج الثقافية والتحليلية والمعرفية المتاحة عبر منصات رقمية متعددة، ما يتيح للمهتمين الرجوع إلى هذا المحتوى في أي وقت. ويضم هذا الأرشيف برامج مثل المنبر الثقافي الذي يقدّمه سعادة حبيب بن محمد الريامي، رئيس مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم، وبرنامج التسامح الذي يقدّمه معالي الدكتور محمد بن سعيد المعمري، وزير الأوقاف والشؤون الدينية، وكذلك برنامج أفلام الحرب، الذي يتناول تحليل الأفلام العالمية بشعار "حين تتحوّل السينما إلى مرآة للذاكرة". إلى جانب برامج أخرى تُعنى بالوعي والمسؤولية الذاتية، ومحتوى استراتيجي ومعرفي يقدّمه منتسبو قوات السلطان المسلحة ومدنيون. ويعكس هذا التراكم المعرفي دور الإذاعة كمرجعية ثقافية ومعرفية ومساحة ممتدة لبناء الوعي.
وفي مسار موازٍ، تبث إذاعة الصمود صوتًا معرفيًا يصل إلى المستمع أينما كان؛ فيما يتحرك مسار آخر عبر البحر ممثلا في مشروع رائد من مشاريع قوات السلطان المسلحة وهو سفينة شباب عمان، إذ تحمل عبر محيطات العالم قيمًا إنسانية ورسالة سلام ومعرفة ومحبة، جنبا إلى جنب مع المسار الذي يتحرك في الفضاء الإذاعي، وكلاهما يحمل رسالة واحدة: تقديم المعرفة بمسؤولية، وتمكين الشباب، والمساهمة في بناء الإنسان عبر مبادرات معرفية وثقافية.
ومع احتفالنا مؤخرًا بيوم قوات السلطان المسلحة في 11 ديسمبر، يعيدنا هذا المعنى إلى جذوره؛ فهذا اليوم تأكيد على المسار الذي تشكّل في عام 1975م، عندما انتقلت عُمان إلى مرحلة جديدة من الأمن والاستقرار والتنمية. وهو يوم يُبرز الدور المتكامل لقوات السلطان المسلحة: دور الدرع الحامي للوطن، الذي يصوغ المعرفة، ويمكّن الشباب، ويسهم في بناء مسارات مستقبلية واعية تمتد بثقة وصمود. فكل الشكر والامتنان لجميع منتسبي قوات السلطان المسلحة... شكرًا لجهودكم المعطاءة التي تحفظ لعُمان بحارها وأرضها وسماءها.
وما هذا السطور في حقيقتها إلا رسالة شكر وتقدير لإذاعة الصمود لقوات السلطان المسلحة، على ما تمثّله من نموذجٍ لمنصة معرفية وإنسانية، تُترجَم فيها القيم المؤسسية والعسكرية إلى خطاب معرفي واع، وتجعل من الإعلام العسكري مساحة لبناء الإنسان ومخاطبته أينما كان. وبقيادة صاحب السمو السيد شهاب بن طارق آل سعيد، نائب رئيس الوزراء لشؤون الدفاع، تأتي هذه الجهود ضمن منظومة تدعم هذا المسار المؤسسي وتمنح مثل هذه المبادرات فضاءها للنمو والتطوّر ومواكبة التحوّلات المعاصرة... وهي مساراتٌ تنبثق في مجملها من الرؤية السامية للقائد الأعلى، حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم – حفظه الله ورعاه – التي تضع الإنسان في صميم البناء، وتُرسّخ دور المؤسسات في خدمة الوطن والإنسانية معًا.