بيتر جودمان
حتى في وقت إعادة التقييم الشرس لمزايا التجارة الحرة، فإن الاتفاق لتشجيع التجارة بين الاتحاد الأوروبي وكندا يبدو وكأنه رهان آمن لتأمين الرخاء السياسي على جانبي المحيط الأطلسي.
لذلك ففي الوقت الذي بدا فيه أن الاتفاقية قد ماتت مؤخرا، فقد أكدت هذه الاتفاقية على مدى أهمية التجارة من الناحية السياسية في كثير من أنحاء العالم.
لقد عززت التجارة الحرة النمو الاقتصادي، ولكن الغنائم تم احتكارها إلى حد كبير من قبل مصالح الأثرياء والشركات. إن تبادل الاتهامات بشأن عدم المساواة الاقتصادية الناتج أصبح شرسا الآن لدرجة أن التاريخ الحديث قد تم تغييره: مرحلة العولمة التي بدأت مع انتهاء الحرب العالمية الثانية قد انتهت.
في العقود السبعة التالية للحرب العالمية الثانية، صاغ زعماء العالم سلسلة من الاتفاقيات التجارية الكبيرة والمعقدة بشكل كبير، معلقين الآمال في السلام والرخاء على قيمة تحويل خصوم زمن الحرب إلى شركاء تجاريين.
ولكن إن كانت اتفاقية يتم التفاوض عليها على أعلى مستوى بين اقتصادين كبيرين ومتقدمين مثل كندا وأوروبا يمكن قبلها بسبب مجموعات مصالح ضيقة – مثل صناعة الألبان في دولة مشاركة صغيرة نسبيا – فلا تحدثني عن كل اتفاقية أخرى كبيرة ومعقدة قيد المناقشة.
على هذا الأساس من المفترض أن نغلق دفاتر اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، تلك الاتفاقية التجارية والاستثمارية الهائلة التي ناصرتها إدارة أوباما وضمت قرابة عشر دول من الدول المطلة على المحيط الهادئ. كما يفترض أيضا أن نقرأ الطقوس الأخيرة على شراكة التجارة والاستثمار عبر المحيط الأطلسي، تلك الاتفاقية العملاقة أيضا بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
أما بالنسبة لأي أحد مازال يتبنى أفكارا خيالية تتمثل في أن أوروبا وبريطانيا سيضعان جانبا السياسة الداخلية وقت التفاوض على ما قد يكون الطلاق الأكثر تعقيدا في التاريخ، فإن ما حدث مؤخرا بخصوص اتفاقية التجارة بين أوروبا وكندا كان تطورا واقعيا.
لقد أصرت الحكومة البريطانية على أنها ستجد وسيلة لمغادرة الاتحاد الأوروبي وفي نفس الوقت تحافظ على الوصول إلى السوق الأوروبية الموحدة – التي تعد المشتري لما يقرب من نصف صادرات بريطانيا. ولكن أي اتفاق تنتج من مفاوضات شاقة يجب أن تفوز بمافقة الدول السبعة والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وأي دولة من تلك الدول تسعى لحماية مصالح صناعة واحدة متضررة فإنها يمكن أن توقف أي اتفاقية من السير قدما.
لقد أصبح مما لا شك فيه أن تحرير التجارة بين الدول الغنية والدول النامية يعرض العمال الضعفاء لمخاطر كبيرة. فعندما تصل واردات أرخص سعرا من بلدان ذات أجور منخفضة، فإن الذين ينتجون سلع محلية أعلى ثمنا سيجدون أنفسهم يبحثون عن فرص عمل جديدة.
عندما دخلت اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية حيز التنفيذ في منتصف تسعينيات القرن الفائت، مما مكن البضائع من التدفق عبر كندا والمكسكي والولايات المتحدة مع وجود حد أدنى من العوائق، أصبح عمال المصانع في المجتمعات الصناعية الأمريكية عرضة لفقدان وظائفهم نتيجة لتدفق الإنتاج إلى الجنوب. وعندما دخلت الصين منظمة التجارة العالمية عام 2001، فاكتسبت الحق في تصدير سلعها إلى جميع أنحاء العالم، تعرض عمال المصانع في كل دولة صناعية للخطر وشعروا بالضعف.
سيبرر اقتصاديو التجارة الوضع قائلين إن إدراج الصين والمكسيك في النظام التجاري العالمي أدى إلى تعزيز النمو الاقتصادي وزيادة الخيارات أمام المستهلك وخفض الأسعار لمجموعة من اللع والسماح للشركات في الدول الغنية بتصدير المزيد من منتجاتها.
إن نظرية التجارة تعلمنا أن التبادل عبر الحدود هو مفيد في نهاية المطاف لكلا البلدين. وبعض المجموعات ستكسب وبعضها سيخسر، ولكن المجتمع ككل سيستفيد، شريطة أن تكون شروط التجارة عادلة وتنظمها حكومات شرعية تعمل بشفافية.
وهنا يكمن الأمر الأكثر استثنائية حول زوال اتفاق التجارة بين كندا وأوروبا: أنه لم يتضمن دولا غنية وأخرى فقيرة مع معايير عمل ومعايير بيئية مختلفة. لقد امتدت هذه الاتفاقية عبر اثنين من المجتمعات الديمقراطية الأكثر ثراء على وجه الأرض.
فإن لم يستطع الناس في هاتين المنطقتين الثقة في بعضهم البعض في اتخاذ السياسات التي تجعل تبادل السلع والخدمات الذي يتم بدون عوائق صفقة مرغوبا بها لكليهما، فإن مزايا التجارة ستزول في المجال السياسي.
إن معظم المقاومة لهذه الاتفاقية وكذلك الاتفاقيات الأخرى الأكبر عبر الأطلسي وعبر الهادئ تركزت ليس على إلغاء التعريفات بل على ما يسمى شروط الاستثمار التي توحد – أو تنسق، بلغة المفاوضين التجاريين – القواعد المعمول بها.
بالنسبة لجماهير الناخبين في كثير من الدول الذين يتشككون بشكل متزايد في المؤسسات الكبيرة – مثل تلك الموجودة في الاتحاد الأوروبي ومثل منظمة التجارة العالمية – فإنهم يترجمون هذا الأمر على أنه تآكل للسيادة. إن جميع تلك المفاوضات رافقها اتهامات بأنها سترفع بشكل فعال من مصالح الشركات متعددة الجنسيات فوق القوانين الوطنية.
ولكن اتفاقية التجارة بين أوروبا وكندا لم تستسلم لهذه المخاوف الكبيرة، ولكن ما أنهكها هو المصالح الضيقة للمدرسة القديمة التي أثارت مخاوف أكبر. وقد كانت صناعة الألبان في والونيا في بلجيكا ضمن تلك المصالح التي تفوقت على السياسة التجارية الأوروبية بشكل واضح.
وهنا دليل لا لبس فيه على أن سياسة اللحظة أصبحت كثر محلية من أي وقت مضى. وهنا أيضا مبدأ أخلاقي ينطبق على أكثر من هذه القصة وحدها.
مراسل اقتصادي لصحيفة نيويورك تايمز