أ.د. حسني نصر
في منطقة ملتهبة وعالم يموج بالصراعات والحروب من كل نوع، تبقي سلطنة عمان كما أرادها مؤسس نهضتها الحديثة جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم حفظه الله ورعاه، واحة أمان وملتقي تطلعات الشعوب التي تتوق إلى السلام والاستقرار وإنهاء الحروب التي أكلت الأخضر واليابس وقتل وهجر بسببها الملايين. تحولت السلطنة في السنوات الأخيرة بفضل السياسة الخارجية المتميزة التي أرسى دعائمها جلالة السلطان، وحافظت عليها ونمتها الدبلوماسية العُمانية الرصينة والهادئة، إلى حكم عدل ووسيط نزيه في غالبية النزاعات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط.
الفضل كل الفضل في ذلك يعود إلى حكمة صاحب الجلالة السلطان قابوس الذي استطاع وما زال منذ أن تولي الحكم في مطلع سبعينيات القرن الماضي أن ينأي ببلده وشعبه عن الصراعات المشتعلة حوله، وأن يحتفظ بعلاقات جيدة مع الجميع، فلم تنحاز السلطنة إلى طرف على حساب طرف او أطراف أخرى، وبقيت على مسافة واحدة تقريبا منهم جميعا، وهو ما أهلها دون غيرها من دول المنطقة لحمل لواء التقارب والتسامح والسلام، ودفع المتخاصمين بمن فيهم القوى العظمي إلى طلب الوساطة العمانية لحلحلة نزاع هنا ووقف حرب هناك. لا غرابة إذن أن تصبح مسقط قبلة أطراف النزاعات المسلحة في المنطقة ممن أعيتهم الحروب والصراعات، وفشلت كل جهود جمعهم على طاولة واحدة في أماكن أخرى. يشهد على ذلك الدور الكبير الذي لعبته السلطنة في تسوية أزمة إيران مع القوى الكبرى، وجمع الفرقاء الليبيين لوضع دستور للدولة العربية التي مزقتها الحرب الأهلية، وما تقوم به حاليا من جهود لإنهاء الحرب في اليمن بالتعاون مع المبعوث الأممي.
في هذا الإطار يمكن فهم ردود الفعل الإيجابية الداخلية والخارجية على الحوار الذي أجرته صحيفة عكاظ السعودية مع معالي يوسف بن علوي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية ونشرته الخميس الفائت. فقد نال الحوار وصاحبه اهتماما إقليميا كبيرا خاصة من جانب الشعوب التي عبرت في شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة عن ثقتها في السياسة الخارجية العُمانية وتقديرها لدورها في إخماد الحرائق المشتعلة في أكثر من قطر عربي.
في هذا الحوار الثري استطاع بن علوي التأكيد على ثوابت السياسة العمانية التي تميزها عن غيرها، والتي تستند إلى الاحتكام إلى العقل والمنطق وحكم القانون وعدم الدخول في صراعات مباشرة أو غير مباشرة مع المخالفين أو المختلفين في الخارج، وعدم التدخل في شؤون الغير وعدم السماح لأحد بالتدخل في شؤونها. كان بن علوي صريحا وواضحا كما شهد بذلك الصحفي الذي أجري الحوار رغم سيل الأسئلة المفخخة التي وجهت له. ووفقا للنص المنشور فإن "وزير الشؤون الخارجية العماني كان حريصا على الرد بصراحة على كل ما يوجه إليه من أسئلة، ويتمسك بكل كلمة يقولها، مهما تفنن سائله في إعادة صياغة سؤاله ليوقعه في فخ التناقض".
الملفات الشائكة في المنطقة التي عملت عليها السياسة الخارجية العمانية تؤكد قدرة السلطنة على التدخل الإيجابي في الأزمات التي يطلب أطرافها وساطتها فيها، والاتفاق النووي الذي أبرمته المجموعة الدولية خمسة زائد واحد مع إيران العام الفائت خير شاهد على ذلك. فبعد طول ترقب وانتظار وعقوبات اقتصادية طويلة، وفي ظل حالة يأس دولي من إعادة الجمهورية الإسلامية إلى النظام العالمي، استطاعت السلطنة أن تحرك المياه الراكدة، وأن تدفع القوى الكبرى إلى الجلوس مع الإيرانيين والتوصل إلى اتفاق نزع فتيل الأزمة التي كادت تشعل حربا في المنطقة. ورغم أن احتفاظ السلطنة بعلاقة طيبة مع إيران يبدو أمرا طبيعيا بحكم الجغرافيا والتاريخ والروابط الدينية والثقافية والتجارية، فإن هذه العلاقة كما أكد بن علوي لم تكن يوما على حساب أحد من المختلفين مع إيران. وفي تقديري فإن إجابات بن علوي عن الأسئلة المتعلقة بشائعات تهريب سلاح إيراني عبر الحدود العُمانية إلى الحوثيين في اليمن تصلح أن تكون درسا تقدمه الدبلوماسية العُمانية للعالم. ستة أسئلة كاملة طرحها الصحفي السعودي جميل الذيابي بصياغات مختلفة، ومع ذلك كان رد بن علوي عليها ثابتا. ففي الإجابة عن السؤال الأول الذي صاغه الصحفي في صورة تقريرية ليبدو كما لو كان حقيقة عن تهريب السلاح الإيراني عبر عمان إلى الانقلابيين، قال بن علوي: "لا صحة لذلك ولم يعبر حدودنا سلاح". عند ذلك قام الصحفي بتغيير السؤال ونسبة الشائعة إلى أنباء نشرتها وسائل الإعلام، فقال بن علوي: "ليس كل ما ينشر صحيحا". اتجه الصحفي في السؤال الثالث إلى مزيد من الاستفزاز بالسؤال عن عدم مبادرة السلطنة إلي نفي تلك الأنباء لتبرئة ساحتها، فكان جواب بن علوي بان أحدا في المملكة العربية السعودية ودول التحالف العربي الأخرى التي تخوض حربا ضد الحوثيين في اليمن ويهمها الأمر لم يسألنا بشكل رسمي عن صحة ذلك حتى نرد عليهم. هذا الرد العقلاني لا يصدر إلا عن دبلوماسي محنك يستند إلى رؤية واضحة، يريد من خلاله إيصال رسالة اقناعية شديدة الوضوح تقول إن دول التحالف لم تسأل عمان عن صحة هذه المزاعم لأنها تعلم علي وجه اليقين أن ذلك غير صحيح، ولو كان لديها أي شك في صحته لسألوا السلطنة عنه.
بنفس الصراحة والوضوح جسد بن علوى معالم السياسة الخارجية العمانية المتميزة إقليميا وعالميا، ويكفي هنا الإشارة إلي العدد الكبير من العناوين الكبيرة التي تسابق صحفيون ومغردون علي شبكات التواصل الاجتماعي علي استخراجها من الحوار الطويل وكلها تصب في خانة الثوابت التي وضع أساسها جلالة السلطان قابوس حفظه الله ورعاه، سواء تلك التي تؤكد علي قوة علاقة السلطنة بالسعودية، أو عدم وجود علاقة خاصة تربط مسقط بأي فريق يمني، بمن في ذلك الحوثيون او المبدأ الذى دفع السلطنة إلى عدم المشاركة في التحالف العربي وهو مبدأ "لسنا مع أي حرب في أي مكان والحروب لا تحل المشكلات".
أكاديمي في جامعة السلطان قابوس