نوبل للأدب: العالمُ يتغير(!)

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٦/أكتوبر/٢٠١٦ ٠٤:٠٥ ص
نوبل للأدب: العالمُ يتغير(!)

زاهي وهبي

لِنتجاوز الآن الحيثيات السياسية التي تكمن وراء اختيارات الأكاديمية السويدية في منحها جوائز نوبل. فإختيار الفنان الأميركي بوب ديلان (روبرت ألن زيمرمان ١٩٤١) ومنحه جائزة نوبل للأدب هذا العام يفتح أبواباً عديدة للنقاش، ليس فقط حول المواقف المُستغربة والمستنكَرة لديلان الداعمة للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وإقامته ردحاً من الزمن في إحدى المستوطنات الصهيونية، وتأييده لغزو لبنان في العام ١٩٨٢ وتقديمه في العام ١٩٨٣ أغنية تدافع عن إسرائيل التي تضررت صورتها كثيراً لدى الرأي العالمي آنذاك خصوصاً إثر مجزرة صبرا وشاتيلا وتبنيه الرواية الإسرائيلية المزعومة عن "تحويل الصحراء (المقصود فلسطين) إلى جنة"، وكسره في العام ٢٠١٤ المقاطعة الثقافية العالمية لإسرائيل وتجاهله النداءات التي وُجِّهت إليه لعدم قيامه بزيارة الكيان الغاصب وإقامة حفل غنائي مع فرقة "رولينغ ستون"، الأمر الذي يتناقض مع كل ما بشَّر به وغنَّى لأجله على مدى عقود، وكأن انتصاره للعدالة والحريّة ومناهضته للتمييز والعنصرية وللحروب منذ فيتنام حتى الآن، كلها تتوقف بالنسبة إليه عند حدود فلسطين التي تظلّ قضيتها المحكّ الحقيقي لأي إختبار أو خيار إنساني وأخلاقي ونضالي.

كل هذا نتركه إلى وقت لاحق لنتناول الآن مسألة تَغَيُّر الأدب، وهل يختلف مفهومه من جيل إلى جيل أو من عصر إلى عصر، لا سيما وأن منح نوبل للأدب إلى موسيقي ومغن وكاتب أغنيات ورسّام يُعد سابقة لم تفعلها الأكاديمية السويدية التي اختارت ديلان بحسب سكرتيرتها الدائمة سارة دانيوس لأنه "ابتكر تعبيرات شعرية جديدة على تقاليد الغناء الأميركي"، وإن كان ثمة ما يشبهها (السابقة) نسبياً قبل قرابة عشرين عاماً حين منحت نوبل للأدب في العام ١٩٩٧ للمسرحي الإيطالي داريو فو الذي لا يمكن فصل نصوصه المسرحية الهامة والمؤثرة عن النتاج الأدبي لا الإيطالي فحسب، بل الإنساني بشكل عام.

من حق الأدباء والشعراء المكرَّسين الشعور بالخيبة والخذلان فديلان ليس شاعراً بالمعنى التقليدي المتعارف عليه وإن كانت تجربته تركت بصمتها الواضحة على الذائقة الجماعية لأجيال من عشَّاق الغناء وموسيقى الروك والبلوز والريف، ومن حق الأكاديمية السويدية منح جائزتها لمن تشاء، مثلما هو من حق الآخرين القبول أو الرفض والاعتراض، وحبذا لو استطاعت الجهات المعارِضة لمنطق الهيمنة الرأسمالية على العالم تأسيس جوائز ذات قيمة ومصداقية، كي لا يظل "الرجل الأبيض" صاحب الأمر والنهي حتى في مسألة تكريس الأدباء والفنانين. لكن بعيداً من الأحلام والتمنيات، بعيداً من الملاحظات وعلامات الاستفهام حول خلفية الاختيارات التي تقوم بها الأكاديمية السويدية، لابد من الاعتراف بأن العالم يتغير. تَغَيُّرُهُ سريع جداً، لا يكاد المرء يعتاد أمراً ويألفه حتى ينشأ أمر آخر جديد يطيح بالذي قبله أو يحيله إلى التقاعد، علماً أن الإنسان خُلِقَ أَلُوفَاً. هذا التغيُّر المتسارع يجعل الكائن البشري في حيرة من أمره وبلبلة، على قلق كأن الريح تحته أكثر بكثير مما كان عليه صاحب هذه المقولة "متنبي" عصره وشاعر كل العصور.

هذه الحال المتغيرة تترك أثراً عميقاً في النَّفْس الإنسانية، وأكثر مَن يُعبِّر عمَّا في دواخل الإنسان هم الأدباء والفنانون، ولو أجرينا مقارنة عاجلة بين حال الغناء قبل نصف قرن من الزمان وحاله اليوم لوجدنا انقلاباً جذرياً لم يعد الصوت فيه هو الأساس، بل دخلت عناصر أخرى كثيرة أبرزها الجسد بكل دلالاته ومعانيه، وتمت "مسرحة" الغناء بشكل كامل، ليس فقط من خلال مشهديات الصورة والفيديوهات، بل أمست الحفلات الغنائية لنجوم مثل بيونسيه وبريتني سبيرز والليدي غاغا (لا ينطبق على الأخيرة تماماً الوصف التقليدي للمغنية) استعراضات ضخمة يتمازج فيها الصوت مع "الصورة" مع المؤثرات التقنية الفائقة الحداثة التي يمكن اعتبارها نوعاً من التشكيل الفني الحديث. حتى الموسيقى نفسها لم تعد موسيقى "بشرية" خالصة مئة في المئة (ديلان نفسه واجهته اعتراضات شديدة حين بدأ بإدخال الآلات الكهربائية إلى أعماله وعروضه)، صارت التكنولوجيا شريكة في ولادة أي عمل فني، فضلاً عن المستجدات في المضامين الموسيقية نفسها، وهَنا مربط الفرس. سابقاً كانت تقوم الدنيا ولا تقعد إذا استعار محمد عبد الوهاب أو الأخوان الرحباني جملة موسيقية من موزارت أو بيتهوفن وبنوا عليها عملاً يختلف عنها كل الاختلاف. اليوم صارت "الموسيقات" تتداخل وتتمازج بحيث يصعب علينا تمييز الهوية المحلية للعمل، خصوصاً وأن الموسيقى لغة كونية تحتمل الكثير من الاجتهاد والارتجال والمقاربات المتنوعة، وصار للموسيقى الإثنية والعرقية حضور راسخ في "الريبرتوار" الموسيقي العالمي.

لِمَ نقبلُ المتغيرات في كل شيء، من المأكل والملبس إلى الموسيقى والغناء، ونستغرب ونستهجن حين يتعلّق الأمر بالشعر والأدب؟ جديد الأمس قديم اليوم، وجديد اليوم قديم الغد وهكذا...، كلُّ شيء قابل لأن يتغير ويتبدل، بما فيه الشعر وفنون الكتابة المختلفة. المهم برأينا ليس الشكل أو ما نسميه الأسلوب أو المبنى، الأهم هو المضامين الإنسانية لأي عمل إبداعي. من حق المبدعين التجريب والاختبار، الزمن وحده كفيل بالإبقاء على ما يستحق. هل يعرف أحدنا كم كان عدد الشعراء في زمن المتنبي؟ طبعاً لا، لكن الذين عبرت قصائدهم الزمن كانوا قِلَّةً قليلة.

العالم يتغير والتعبير بالفن والأدب عن هذا العالم يتغير أيضاً. مواقع التواصل تضجّ بالكتابات والنصوص، لا أحد يستطيع أن يمنع أحداً أو أن يحجب أحداً، ليس من حق أحد أصلاً أن يفعل. صحيح، ثمة الكثير من الغثّ يُنشر تحت مُسمَّى الكتابة، وبعضهم يكتب كنتِ على هذا النحو: كنتي(!) ويذيِّلها: بقلمي. هذا النوع يستحق "قلماً" بالمعنى المصري للعبارة. لكن الصحيح أيضاً ثمة الكثير من النصوص الجميلة والتواقيع الجديرة بالحب والاحترام، وثمة كتابات عابرة للجنس الأدبي، أي أنها لا تندرج ضمن الشعر ولا تنطبق عليها مواصفات النثر. قد تكون شكلاً جديداً من الأدب، ربما تصحُّ فيه تسمية "الأدب الافتراضي"، لا تقليلاً من أهميته ولكن تمييزاً له عمّا يُنشر بين دفتيّ كتاب. علماً أن النصوص المفتوحة ليست جديدة ولا طارئة، لعلها قديمة قدم الكتابة نفسها. في الماضي كان الشاعر، فضلاً عن كونه شاعراً، فيلسوفاً وفقيهاً وطبيباً وعالم فلك. فما الذي يمنع اليوم أن يكون الشاعر موسيقياً ومغنياً وراقصاً ورسّاماً. أدونيس نفسه يزاول هواية الرسم ويقيم معارض ويعرض لوحاته لمن يرغب بشرائها واقتنائها.

العالم يتغير، العالم يسرع خطاه، ولن ينتظر أحداً خصوصاً المترددين الحائرين. الإبداع الإنساني مفتوح على مداه، إتساعه من وسع الخيال نفسه، المهم برأينا ليس النوع الأدبي ولا التسمية، المهم الإتقان. إتقان كلِّ أمر نُقدِّم عليه. يستطيع المهندس المعاصر ابتكار أشكال هندسية جديدة في العمارة وسواها، لكنه لا يستطيع تجاهل الأسس البديهية للهندسة، وهكذا حال الكتابة والتعبير الفني. ثمة أساسيات لا يمكن تجاوزها والقفز فوقها. في الكتابة اللغة أساس وليست تفصيلاً، الكاتب لا يستحق صفة المبدع ما لم يمتلك لغته وأسرارها ومفاتنها كافة. بوب يلان، في معزل عن دعمه المشين للإحتلال الإسرائيلي قدَّمَ جديداً في الكتابة الشعرية، لغته ساخنة وطازجة وطالعة من صلب الحياة اليومية تحاكي هموم متلقيها ومشاعره وتحكي معه وعنه، وفي الوقت نفسه ملأى بالتراكيب والصور والاستعارات الفاتنة، مثلما هي ملأى بالمضامين الإنسانية التي وقفت للأسف عند حدود فلسطين، ربما لو لم تقف هناك لما نال نوبل أصلاً(!)

إشارة لا بد منها: المتغيرات في دنيا الفن والأدب ليست جديدة كلياً، ولا طارئة. لكن التواصل المفتوح على مداه يجعلها أكثر وضوحاً. فالتسارع الحاصل في طبيعة هذا التواصل وأدواته يترك بصمته الجلية في كل شيء، وبطبيعة الحال في النصّ الإبداعي. اليوم لا يمكن الحديث عن النتاج الأدبي والفني من دون الالتفات الضروري إلى ما يُنشر على مواقع التواصل، وإلى تأثير هذا التواصل بين المُرسِل والمتلقي، وقد صرنا جميعاً مرسلين ومتلقين في آن. النصوص تتغير وتتجدد وأدوات النقد ينبغي أن تتغير وتتجدد وإلا تقادمت وفات ميعادها. بإختصار: أن تتجدد يعني أنك على قيد الحياة.

لعل الأكاديمية السويدية باختيارها ديلان الحائز أصلاً على عشرات الجوائر العالمية مثل أوسكار وغرامي، أرادت الاقتراب أكثر من الذائقة العامة الجديدة والمتجددة لا النخبوية (ربما لو بقي ديلان أسيراً لموسيقى وغناء "الفولك" بمعناه التقليدي لما كنّا سمعنا باسمه لكنه جدَّد وتجدَّد وغيَّر وتغيَّر حتى استحقَ مكانته لدى الذائقة الجماعية) ولعل مأزق الشعر المعاصر اليوم أنه غارق في نخبويته، مرتفع عن الواقع، يأنف التعبير عن القضايا الساخنة الملِحَّة بذريعة الحفاظ على الجماليات، ويخشى تكسير القوالب الجامدة بما فيها تلك التي بشَّر بها شعراء الحداثة وتحولت مع الوقت إلى نصوص رجعية "مقدَّسة". لعل الذين نظَّروا لهذا الابتعاد عن الناس وقضاياهم اليومية فاتهم أن لا معنى للجمال ما لم يحاكي الإنسان ويحكي أحلامه وآماله، والأهم آلامه.

***

رحل فاروق شوشة، رحل الشاعر الجميل النبيل الأليف الأنيس الودود العطوف المرهف الشفاف.
رحل عاشق اللغة العربية الذي أفنى العمر في خدمة "لغتنا الجميلة".
رحل شاباً ثمانينياً، لم يسأم ولم يتعب كَجدِّهِ زهير، وكان في عِتيِّ العمر جديداً متجدداً أكثر من "جُددٍ" كثر.
أحرّ العزاء للغة الضاد وأهلها، لِمِصْر الولَّادة، لأسرته ومحبيه أنَّى كانوا، له الرحمة والمغفرة والبقاء في جنة الخلد، وفي ذاكرة الأدب العربي الجميل.