فريد أحمد حسن
جزء مقتطع من مقابلة تلفزيونية كانت قد أجريت مع مفتي عام السلطنة سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي تم تبادله أخيرا عبر وسائل التواصل الاجتماعي يركز فيه سماحته على أمرين ؛ الأول هو أن سلطنة عمان ظلت على مدى القرون الفائتة متماسكة وأنها ستظل بإذن الله متماسكة على مدى القرون التالية ، والثاني هو أن جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم أكد مرارا أن السلطنة لا تسمح لأي كان سواء من الداخل أو الخارج التأثير على نسيجها المتماسك . هذا يعني أن النسيج الاجتماعي العماني خط أحمر ممنوع الاقتراب منه رغم أنه ثبت أنه غير قابل للتأثر .
قول صاحب الجلالة السلطان المعظم وحديث سماحة المفتي هو عن تماسك الجماعة ، وهو ما عرفه علماء الاجتماع بأنه "ما ينتج من التفاعل بين كل العوامل التي تدفع الأفراد للبقاء في الجماعة" و حددوها في مجموعتين من العوامل ؛ "عوامل تؤدي إلى زيادة جاذبية الجماعة لأفرادها ، وعوامل مرتبطة بدرجة جذب العضوية في جماعات أخرى" وهذا تعريف مهم ودقيق للغاية ويعني أنه كلما كانت عوامل جذب المجتمع لأفراده قوية كلما فشل الآخر – أيا كان – جذبهم إليه . وهذا بالضبط هو ما سارت ولا تزال تسير عليه سلطنة عمان التي اهتمت بالإعلاء من شأن مواطنيها فضمنت تماسك المجتمع العماني وعدم قدرة كل من يريد بها السوء على التغلغل فيه واستدراج بعض أفراده .
سر تطور السلطنة هو تماسك مجتمعها ، وسر تماسك المجتمع العماني هو أن أفراده يجدون فيه كل ما يحول بينهم وبين اختيار الآخر أو التمرد عليه ، فالآخر – بالنسبة للمواطن العماني - ضعيف وهش قياسا بالمجتمع العماني وما يوفره له من من أمور ليس بالضرورة أن تكون مادية .
صاحب الجلالة السلطان المعظم نجح نجاحا باهرا في جعل المجتمع العماني مستمرا في تماسكه ، لهذا لم يتأثر نسيجه بمختلف العوامل التي تؤثر عادة على المجتمعات وأفرادها رغم كل التطورات والتغيرات التي شهدتها المنطقة في السنوات القليلة الفائتة على الأقل والتي اهتزت بسببها كثير من المجتمعات .
اليوم ينظر العالم كله إلى المجتمع العماني على أنه كتلة واحدة ، كتلة غير قابلة للاختراق ولا للتأثر السالب ، وصار الكل يعرف أن محاولة تغييره مسألة ليست صعبة فقط ولكنها مستحيلة ، فلا شيء يغري العماني كي ينسل من مجتمعه ، ولا سبب يدفعه كي يختار الآخر ، وهو يعرف جيدا أن انفلاته يعني اختياره للسيء مهما كان متميزا ومغريا للآخرين .
كل ما قد يؤثر على تماسك المجتمع العماني يرفضه العمانيون ويتخذون منه موقفا وكأن ذلك يحدث بالفطرة ، ولهذا بقيت العادات والتقاليد والأعراف في المجتمع العماني لم تتغير حتى مع التطور الهائل الذي شهدته السلطنة في العقود الأربعة الأخيرة ولا تزال ، وبقيت أخلاق الإنسان العماني على ما كانت عليه وتميز بها حتى صار مضرب المثل ، وبقي بالطبع الكرم العماني الذي لا يجارى ، وبقي كل طيب عرفت به عمان .
كنت قد زرت إحدى الدول العربية في السبعينيات وظلت الانطباعات الإيجابية التي تكونت عن ذلك الشعب في الذاكرة وتلح بقوة على زيارتها مرة أخرى . في بداية الألفية الثالثة أتيحت لي الفرصة لزيارتها من جديد فسافرت إليها وأنا كلي شوق معتقدا أن الإيجابيات التي كانت لا تزال متوافرة ، لكنني للأسف لم أجد منها شيئا يذكر ، وعندما سألت بعض الأصدقاء هناك عن السبب قالوا إن الواضح هو أن المجتمع في هذا البلد لم يكن متماسكا فلم يستطع الوقوف في وجه المتغيرات فتحول الناس فيه من حال إلى حال نقيض ، وأن الزمن الجميل الذي توقعت أن تعود إليه لم يعد متوفرا .
هذا المثال كفيل بتبين مقدار تماسك المجتمع العماني خصوصا مع وجود كثرة من تلك البلدان التي حدث فيها مثل ذلك التغيير المثير وأثر على نسيجها وحياتها ، لهذا ينبغي من المختصين الاجتماعيين والنفسيين في السلطنة دراسة أسباب بقاء المجتمع العماني على تماسكه وعدم تأثر نسيجه رغم كل التطور الذي شهدته سلطنة عمان ورغم كل ما أتى به أبناؤها معهم من الخارج حيث درسوا ونالوا الشهادات العليا .
تماسك المجتمع العماني وعدم تأثر نسيجه بكل العوامل التي تؤثر على المجتمعات بصفة عامة مسألة لافتة ومثيرة ، وعدم انجرار أفراده إلى ما يدور من حولهم ويفترض – نظريا - أن يتأثروا به مسألة لافتة أيضا ومثيرة ، لهذا فإن من المهم جدا أن يقوم المعنيون بدراسة هذا الأمر بشكل علمي لعل المجتمعات الأخرى تستفيد من ذلك خصوصا مع هذه التحولات المذهلة التي تشهدها مختلف المجتمعات العربية والتي لم تبق ولم تذر وكأن القرار هو إعادة تأسيس تلك المجتمعات .
علماء الاجتماع يؤكدون أن "من الحقائق الاجتماعية المتواضع عليها علميا أن الأفراد لا ينجذبون إلا لجماعة تمثل لهم مصدرا لاشباع حاجاتهم" وهذا يفسر جانبا من تماسك المجتمع العماني ، ويؤكدون أن "من أهم العوامل الجاذبة للأفراد إلى الجماعة تأكيد الإحساس بالهوية لدى الفرد ، والمشاركة في صنع أحلام الجماعة ، وشعور أفراد الجماعة بالاتحاد مع قيم الجماعة ، وقدرة الجماعة على الاستجابة لدوافع و تطلعات الأفراد" ، وكل هذا من الأسس التي حرص صاحب الجلالة السلطان المعظم على وضعها كأساسات لمشروعه الذي حقق نجاحات كبيرة فأذهل العالم وأدهش علماء المجتمع ، ووفر درسا يستحق الدراسة والتأمل .
· كاتب بحريني