محمد محفوظ العارضي
عندما بدأت بإنجاز كتابي الأخير "عرب بعيدون عن الأنظار" إنما أردت القول إن هذه الأمة لم تتوقف عن الإبداع وعن إنتاج رموزها من الرواد في الفكر والعلوم والاقتصاد والفن، لم تتوقف عن كونها حاضنة للتجارب الناجحة والملهمة. ولكن يبدو أنها تحت غبار المرحلة الصعبة، المستمرة منذ عقود، فتوقفت عن تلمس ذاتها، ومواطن قوتها، وعن إدراك النجاحات المبدعة التي يحققها أبناؤها.
كتاب "عرب بعيدون عن الأنظار" ينصف هذه المرحلة من خلال تقديم بعض من رموزها الجدد. وهو أيضاً إنصاف للتاريخ الذي يبدو أننا، وبدون قصد، أردنا لتجاربه أن تكون عقيمة بدون إمتدادات لها في حاضرنا، فاختزلنا حضارتنا في التاريخ، واختزلنا إبداعنا برموز غادرتنا منذ قرون، وبتنا نتحسر على الحاضر وكأنه خالٍ من أي تجربةٍ ناجحة.
لا شك في أن التاريخ العربي والإسلامي يزخر بالعظماء والمبدعين، من رواد الطب والعلوم والفلك واللغة. ولا شك في أن هؤلاء المبدعين، شكلوا إلهاماً لشباب العرب والعالم لسنوات طويلة. ولا شك أيضاً في أن لهم الفضل الكبير في الكثير من الإنجازات العلمية والتقنية والأدبية التي تحققت بعد مغادرتهم الحياة بسنوات طويلة. ولكن مع مرور الوقت، فقدنا صلتنا الطبيعية بهم، وأصبحنا نستخدم اسماءهم فقط لتذكُر أمجادنا التليدة لدرجة أن هذه الأسماء طغت على التجربة الحقيقية لأصحابها، فبتنا نذكر الاسم من دون أن نعلم أي شيء عما قدمه صاحب هذا الاسم من إضافات جعلت من تاريخنا محل فخر واعتزاز، وبدون أن نعرف شيئاً عما عاناه هذا الشخص ليصل إلى هذه المكانة، وما تكبده من مشاق لتحصيل المعرفة وتمكين ذاته.
لو سألنا الشباب العربي من مسقط إلى الرباط، عن رموز هذه الأمة سنجدهم يرددون الأسماء التاريخية ذاتها، وكأن الحاضر ليس سوى خواء، خالٍ من المبدعين. إن خطورة هذه الحالة أنها تضعف الثقة بالأمة كحاضنة للتجارب، وتضعف الثقة في الذات ولا تستفز إصرارها وتحديها، وهذا ما استوقفني للتفكير ملياً بكيفية قلب هذه المعادلة، فتوصلت إلى قراري بضرورة إصدار كتاب أستعرض فيه نماذج وصلت قمم النجاح..إنها نماذج بسيطة وعادية، عاشت بيننا، وواجهت ذات الظروف التي يواجهها أي شاب أو شابة عربية. نماذج تشبهنا في ملامحها، قاسمتنا المرحلة ذاتها، ولكنها استطاعت أن تصنع تجاربها الخاصة وتحقق نتائج مميزة.
من هنا جاء سبب اختياري للشخصيات التي تناولتها في كتابي ومن خلالها أردت القول إن الرموز هم أناس عاديون لكن بإرادة غير عادية، وبثقة عالية في الذات منحتهم الطاقة لتحمل المشاق حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه.
أردت القول إن رموز هذه المرحلة، كرموز أي مرحلةٍ أخرى، ليسوا مخلوقات خارقة، وليسوا نسيج خيال كاتب أو باحث في التاريخ، بل هم حقيقة مجسدة ومعاصرة، والحقائق المعاصرة والملموسة أكثر قدرةً من الحقائق التاريخية على استنهاض همم الشباب من دون إلغاء التاريخ كجذر لثقافتنا وتراثنا وهويتنا المعنوية.
سبب آخر دفعني نحو إصدار هذا الكتاب، هو هذه الحال التي تشبه الاستسلام الثقافي لمقولة أننا كعرب غير قادرين على الإبداع، وأننا لا نستطيع ما يستطيعه الآخر، وأن كل إنجازات العصر وعلومه ومعارفه يعود الفضل فيها لهذا الآخر. إن الإيمان بالقدرات الذاتية شرط أي إبداع وتقدّم، والعلاقة الثقافية مع الآخر يجب أن تكون علاقة ندية، لا سطوة فيها لثقافة على أخرى، فالسطوة الثقافية تشلّ الإرادات وتحتجز العقول وتؤبد حالة التخلف والتبعية، فما بالكم إذا كان الخضوع لهذه السطوة إرادياً وطوعياً؟ لذا جاء الكتاب ليقدم أدلة على قدراتنا وإمكانياتنا التي لا تختلف عن إمكانيات الأخر.
إن التنافس الحقيقي اليوم، هو تنافس على امتلاك المعرفة وتطويعها لخدمة الأمة. وبالرغم من التباين بيننا وبين الآخر في الإمكانات المادية والتقنية بالذات، إلا أن الطاقات البشرية التي تملكها هذه الأمة قادرة تدريجياً ومن خلال الإيمان بالذات على تغيير هذه المعادلة. إن تفوق أمة على أخرى في منجزاتها، ليست قضية قدرية حتمية، بل هي حصيلة اشتباك الفرد في إطاره الجماعي مع الظروف بغية ترويضها والانتصار عليها.
إن كتاب "عرب بعيدون عن الأنظار" قراءة مختلفة للمرحلة الراهنة التي تسودها الانقسامات والصراعات، من خلال تسليط الضوء على الصورة الجميلة لأمتنا التي صنعها هؤلاء الأشخاص العشرة الذين تناولتهم في الكتاب والكثيرين غيرهم ممن ينتظرون من يقدم تجاربهم الناجحة، هؤلاء هم سياج الأمة وبناتها وحماة حاضرها وضمانة مستقبلها.
هذا الكتاب هو دعوة للمثقفين العرب وللمؤسسات الثقافية العربية، لاستحضار النماذج الخيّرة، ممن حققوا اختراقاَ في جدار الواقع العربي المزري، ليبشروا بمستقبل أكثر إشراقاً. هؤلاء هم الأَولى بالتقديم وبتداول أسمائهم واستعراض تجاربهم، في مرحلة سيطرت مفردات القتل والتدمير على المشهد السياسي والإعلامي والثقافي العربي.
هذا الكتاب هو دعوة مفتوحة لكافة الجهات الرسمية العربية، بأن تكرس المزيد من جهودها لاكتشاف المواهب الواعدة ورعايتها وتوفير المؤسسات لتطوير قدراتها، وتوفير المناخ للاحتفاظ بها والاستفادة من إمكانياتها... إن الحضارة في مفهومها العميق لا تكون إلا بمقدار مساهمة البشر في تنمية البشر ذاتهم، إنها نتاج طبيعي للجهود الفردية والجماعية وحصيلة تراكمات متواصلة من العمل والاجتهاد.