لميس ضيف تكتب للشبيبة: صراخ بلا صدى

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٢/يوليو/٢٠٢٥ ١٢:٤٥ م
لميس ضيف تكتب للشبيبة: صراخ بلا صدى
في إحدى الليالي، استوقفتني عبارة قالتها ناشطة سويدية في لقاء تلفزيوني: " اليوم الفضاء الرقمي مليء بالصراخ ، صوت بلا وزن، وكأننا نرمي كلماتنا في فراغ. تمتلأ المنصات بتغريدات غاضبة ويتدفق الدعم الرقمي بالملايين وتتخيل أن شيئا ما سيتغير في الصباح لكن بووم.. لا شي ، يتبخر كل شي وكأنه لم يكن "
كلماتها وجدت صدى في داخلي لأني أعرف تماما عن ما تتحدث . حتى وقت قريب ، كان الرأي العام حين يتجمّع ويضغط يُحدث فرقًا ملموسًا؛ رغم محدودية أدوات التعبير. وبعد أن انتقلنا لعصر يملك كل فرد فيه منبرا ارتفعت آمالنا في واقع مختلف حتى ارتطمنا بواقع مقلق. لقد تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى فسيسفاء من الانفعالات اللحظية ، والصراعات سريعة الزوال، وتراجع الرأي العام بدلا من أن يتعزز في اللحظة التي فقدت فيها قيادة الرأي معاييرها . ومنح من يبيعون الكلام ، لا الفكر، المساحة . فأصبحت الاستثارة العابرة هي عنوان حياتنا . وضاع المضمون وبقي الضجيج أو كما تقول نعومي كلاين " ما يباع اليوم ليس الحقيقية ، بل الانتباه ".
غياب الفكر ، وغياب قادة الرأي وغياب النموذج . جعل الرأي العام صوتًا مشتتًا، يسهل تجاهله أو استثماره من قبل الخصوم. أما المدهش حقا أن الأفكار والتوجهات التي تولد في تلك المنصات تلقح دوما بمصل " التدمير الذاتي " فحتى أن كان لها غاية وهدف ، فإن الصوت الذي يسفهها ويعارضها يولد معها كتوأم بغيض يريد تصفية شقيقه بلا سبب. لهذا يتكرر السناريو نفسه كل مرة . صراعات يحسمها الضجر . أو تهليل رقمي تُفقد بعده الأنفاس .
لم يكن الحال هكذا حتى عشرين عاما مضت. تاريخيًا، أثبت الرأي العام قدرته على فرض تغييرات عبر ضغط شعبي منظّم ومركز، في مصر حاولت الحكومة في 1977 تغيير أسعار المواد الأساسية فتحركت الجموع وتراجعت الحكومة فوريا. في ألمانيا انطلقت حملات شعبية في الثمانينات ضد تجارب الطاقة أوقفت بناء محطات جديدة. وفي فرنسا ، وحتى العام 2006 ، احتجاجات الطلبة وحدها أوقفت قانونًا يسهل فصل الشباب من العمل. الرأي العام نفسه الذي أوقف مشروع مطار ناريتا الثالث في اليابان أصبح اليوم ، عاجزا تماما عن التغيير رغم اتساع رقعة أدواته . أكثر من 10 ملايين إنسان تظاهروا ضد غزو العراق وتم تجاهلهم. في فرنسا، عبرت احتجاجات السترات الصفراء عن غضب عميق ولم تُغير شيئا، وقبل عامين انطلقت حركة ضخمة ضد التحرش سميت ب" أنا أيضا " لم تغير جوهر القوانين رغم اتساعها .وهو أمر يثير العجب حقا .
هل من عودة ؟
هل يمكن أن يستعيد الرأي العام قوته وهيبته ؟
ربما .. ربما لا . نحن بحاجة لقادة رأي وفكر ، فالمنصات فشلت لأنها على حد تعبير أفلاطون " تستأمن قيادة السفينة لمن لا يفقه في الملاحة و تساوي بين الجاهل والحكيم ". ربما سنتجاوز يوما الضجيج الرقمي ونصل لتنسيق واعٍ ، تُستخدم فيه الوسائل بذكاء، وإلى ذلك الحين، سنظل – كما قالت الناشطة في مقابلتها مقتبسة ما قاله بودلير "نتفرّج على انهيار العالم من وراء زجاج نافذة مقفلة."