
في صيف عام 1999، ومع فجر العصر الرقمي، اجتمع قادة العالم في جمعية الألفية لتقنية المعلومات والمعرفة بالأمم المتحدة برؤية جريئة: يجب على الحكومات التحول الرقمي، وستساعد الدول الغنية البقية على تحقيق ذلك.
بصفتي عضواً في وفد عمان، شاهدت كيف طغت مثالية "التعاون العالمي" على حقيقة أكثر قتامة." بمجرد أن نعتنق الحكومة الإلكترونية، تختفي الخصوصية". قلت لرئيس وفدنا: " لن تعود بياناتنا ملكاً لنا بعد الآن."
لقد اعتبر ذلك جنون ارتياب. بعد عقدين من الزمن، أصبح التحذير نبوءة - وإسرائيل بعلاقاتها العميقة بالتكنولوجيا والاستخبارات الغربية، تقع في قلب إمبراطورية المراقبة هذه.
ثورة الأبواب الخلفية
محا عصر ما بعد 11 سبتمبر أي أوهام. أجبرت حكومة الولايات المتحدة عمالقة التكنولوجيا الأمريكيين على تضمين أبواب خلفية للمراقبة في صادراتهم - رسمياً من أجل " الأمن القومي"، ولكنها في الواقع أمر عالمي بالتجسس. إسرائيل، أقرب حليف لأمريكا في تبادل المعلومات الاستخباراتية، حصلت على وصول غير مباشر إلى هذا الكنز من البيانات من خلال اتفاقيات مثل ECHELON ووحدات الإنترنت المشتركة. يقول آفي ماير، مسؤول إسرائيلي سابق في الأمن السيبراني تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته: "إسرائيل لا تستفيد فقط من المراقبة الأمريكية – بل تشكلها بنشاط."
"عندما يطلب وكالة الأمن القومي أو مكتب التحقيقات الفيدرالي أبواباً خلفية من آبل أو جوجل، نادراً ما تكون وكالات المخابرات الإسرائيلية بعيدة عن الوصول إلى نفس القنوات. "
من بيغاسوس إلى أجهزة النداء المتفجرة: حرب إسرائيل الرقمية
شهد العالم وصول قدرات الحرب السيبرانية الإسرائيلية إلى مستويات جديدة مخيفة في 2024 عندما انفجرت عشرات أجهزة النداء التي يحملها عناصر حزب الله في وقت واحد في جميع أنحاء لبنان. أثبت هذا الهجوم غير
المسبوق أن المراقبة الحديثة لا تراقب الأهداف فحسب، بل يمكنها القضاء عليها جسدياً من خلال أجهزتها الخاصة. لقد أظهرت انفجارات أجهزة النداء قدرة إسرائيل على:
* تحويل الإلكترونيات العادية إلى أسلحة عن طريق تفجير البطاريات عن بعد.
* اختراق سلاسل التوريد عن طريق زرع قدرات قاتلة أثناء التصنيع.
* تصعيد الحرب السيبرانية إلى المجال المادي بضربات دقيقة قابلة للإنكار.
يكشف هذا الحادث، بالإضافة إلى برنامج التجسس بيغاسوس الإسرائيلي – المستخدم ضد الصحفيين والنشطاء في جميع أنحاء العالم – والتتبع المدعوم بالذكاء الاصطناعي في مناطق النزاع، عن تطور كامل للحرب.
يقول آفي كوهين (اسم مستعار)، مسؤول سابق في الدفاع السيبراني: "لقد قرأوا رسائلك أولاً عبر بيغاسوس. ثم يفجرون أجهزتك."
كان هجوم أجهزة النداء "البيجر" لحزب الله بمثابة إظهار إسرائيل للعالم أنه لا توجد حدود بعد الآن."
النفاق في الحرب الباردة التقنية
بينما تسلح إسرائيل والغرب التكنولوجيا، فإنهما يشنان حملة لا هوادة فيها ضد شركات التكنولوجيا الصينية، واصفين شركة "هواوي" الصينية بأنها "أداة تجسس" وتيك توك "قناة بيانات إلى بكين". ومع ذلك، تهيمن أنظمة التشغيل المصنوعة غربياً (ويندوز، آي أو إس، أندرويد) ووسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، إكس، جوجل، واتساب) على البنية التحتية العالمية – دون أي تدقيق حول كيفية استغلال إسرائيل لها للتجسس.
لقد كشف طرح شبكات الجيل الخامس ( 5G ) عن ازدواجية المعايير:
2019: هواوي رائدة في توفير تقنية 5G بأسعار معقولة. وسائل الإعلام الغربية تفيض بتقارير عن "مخاطر الإشعاع" و "غسيل الدماغ الصيني". تضغط الولايات المتحدة على حلفائها لحظرها.
2024: شركات غربية مثل إريكسون ونوكيا تنشر تقنية 5G . تختفي تحذيرات الصحة.
المخاطر: استعمار رقمي أم سيادة؟
لقد تحول حلم الحكومة الإلكترونية لعام 1999 إلى شبكة مراقبة عالمية يسيطر عليها محور تقني- استخباراتي
أمريكي- إسرائيلي. أثبتت هجمات أجهزة النداء الخاصة بحزب الله أنه حتى الأجهزة الإلكترونية الأساسية يمكن تحويلها ضد مستخدميها.
ثلاث خطوات لاستعادة السيطرة:
* بناء تكنولوجيا سيادية: تطوير بدائل محلية لأنظمة التشغيل والأجهزة الأجنبية والتطبيقات.
* تأمين سلاسل التوريد: إنشاء معايير وطنية لجميع مكونات التكنولوجيا الحيوية.
• افتراض االختراق: التعامل مع جميع التقنيات الأجنبية على أنها أسلحة محتملة حتى يثبت العكس.
الجاسوس والقاتل الأخير
نحن نقف عند مفترق طرق: الاستمرار في الاعتماد على التقنيات المعادية، أو اتباع خطى الصين في بناء بنية تحتية رقمية سيادية. لم تكن هجمات أجهزة النداء مجرد تحذير – بل كانت معاينة لمستقبلنا الضعيف. لكن أخطر جاسوس ليس جهاز نداء أو أي جهاز متخصص – إنه الهاتف الذكي الذي في جيبك. هاتفك، وساعتك الذكية، وخاتمك الذكي و/ أو سوارك يعرف كل شيء عنك:
* عاداتك اليومية وروتينك.
* ما تأكله، متى تنام، ومتى تستيقظ.
* كل مكان تزوره (وكم من الوقت تبقى هناك).
* من تقابله وما تناقشه (من خلال الوصول إلى الميكروفون).
* بياناتك الصحية، ومعاملاتك المالية، وحتى بياناتك البيومترية.
هذا هو كيف أعتقد أن إسرائيل اغتالت هؤلاء المسؤولين الإيرانيين الكبار الأسبوع الماضي. لقد أصبح الأمر لا يحتا ج إلى جواسيس بشريين – فقط هواتف الأهداف نفسها التي خانتهم. الجهاز الذي يعمل كرفيقك الدائم هو أيضاً نقطة ضعفك الأكبر . كل جهاز أجنبي الصنع في منزلك ليس مجرد جاسوس – إنه عميل نائم ينتظر رمز التفعيل. كانت انفجارات أجهزة النداء مجرد المشهد االفتتاحي.
لن تُنفذ اغتيالات الغد بأيدٍ بشرية، بل من خلال المستطيل المتوهج الذي لا يغادر جانبك أبداً. هاتفك لا يحبك إنه ينتظر وقته فحسب!