بقلم : علي بن راشد المطاعني
هكذا أمست الحقيقة في هذا العصر، كالعلقم مرة، وكالحنظل شنيعة، وكالشوكة في الحلق مؤلمة، وفي الرأس ثقيلة كصخرة، وفي الوجه قبيحة ومسيئة، وفي الأرض تسعى كحية، لذلك لم تعد تطاق، ولم تعد مرحب بها إجتماعيا، لقد حل محلها الرياء والزيف والنفاق والكذب.
فلو أنك صدحت بها مجردة من كل هوى وغرض فسرعان ما توصم بما لايليق، ثم تجد الإزدراء والنفور واضحا أمامك وفي عيون ووجوه الناس، فماذا حدث ياترى، لماذا أمسى الناس لايحبون الحقيقة، لماذا يمقتونها ويلعنونها وينفرون منها كوباء أو كفيروس مهلك، ماذا حدث للناس على وجه الدقة، هل ياترى كل ذلك من علامات الساعة، على كل ليست الحقيقة ملعونة في هذا العصر فحسب، كانت كذلك لدى كل الأمم الغابرة، كل الأنبياء والرسل واجهوا في صبر وجلد معضلة رفض الحقيقة، نوح عليه السلام وكما أخبرنا رب العزة في سورة هود قال لقومه الحقيقة خالصة لوجه الله، فتم رفضها في إباء وشمم، قال لهم وهو يشفق عليهم في الواقع غير إنهم لايعلمون حقيقة أن مركز ضعفهم هو ذاته فجورهم:
(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) صدق الله العظيم.
فهم كانوا كارهين لها وكانوا في غيهم يعمهون، لم يستطع أي منهم ردهم لجادة الصواب، صحيح أنهم كانوا أكثرية وهذا يوضح لنا بجلاء حقيقة أن الضالين في كل الأحقاب والأزمان هم كُثر، وإنصار الحقيقة كانو أبدا قلة، تلك أوضحها لنا رب العزة أيضا في ذات السورة (وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) صدق الله العظيم.
قريشا وفي بدر الكبرى كانت عظيمة العدد كانوا الف رجل و200 فرس، والمسلمين كانوا حوالي 300 رجل وفرسان و70 جملا، إذن الكثرة لا تعني الحقيقة ولاتعني الإنتصار، ولا تعنى أنها تمثل الفضيلة، الإحتمال الأكبر أنها تمثل الضلال والضلالة، ففي سورة الواقعة أوضح لنا رب العزة سر أولئك (القليل) وإذ هم في جنات الخلد:
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (14) صدق الله العظيم، لذلك فإصحاب العقول النيرة يسألون الله أبدا أن يجعلهم أبدا من زمرة أولئك (القليل).
وعلى مر العصور ستستمر هذه الجدلية قائمة، وقد تصل في أغلب الأحوال إلى النهايات المحتومة تماما كما حدث مع كل الأقوام التي سادت ثم بادت، وكانت معضلتهم الكبرى أنهم رفضوا الحقيقة التي جاء بها الأنبياء والرسل، وتتخلص في الحقيقة المجردة أن (أعبدوا الله وأتقوه وأطيعون) فاهلكهم الله جزاء وفاقا.
وبما أن الأمر كذلك، وبما أن المجاهرة بالحقيقة من قبل إنصار القلة مرفوض ومقموع، فان هناك الكثير من المنافع التي من الممكن أن تعود خيرا للمجتمع يسكت أصحابها ويرفضون البوح بها خوفا من ألسنة غلاظ شداد لاترحم ولا تقف عند حد القضية أو الحقيقة المطروحة، بل يقفز السباب وبذئ القول إلى كل أفراد عائلة قائل الحقيقة نساء كانوا أم رجال، نعتا وتجريحا وطعنا وفحشا، هنا يصمت أصحاب الصلاح مرغمين، فيفقد المجتمع روعة النصيحة التي هي الدين كله، وتدفن الأفكار الخلاقة في رمال الحقد والجنون الأسود، وتعج مواقع التواصل الإجتماعي بالعهر والطعن والهمز واللمز بغير واعز ديني أو أخلاقي أو سلوكي.
ففي هكذا واقع هو يمكننا أن نراهن على أن الذين يملكون الحقيقة العلمية والموضوعية والتي فيها صلاح البلاد والعباد سيستمرون في البوح بما لديهم من إشراقات وإبداعات ونفحات منيرات، نحسب بأنهم سيلتزمون الصمت الجميل واللا جميل في آن معا، وعندما يفعلون ستخلوا الساحة للضالين والمضلين ليعيثوا في الأرض فسادا وإفسادا، ولن يتقدم المجمع قيد أنملة للأمام، سيحكم المجتمع على نفسه بالتراجع والإنفكاء ومن ثم الإنزواء.
نامل أن يدرك الناس في كل مكان وزمان بأن الحقيقة وعندما تقال للمرة الأولى تبدو قاسية ومؤلمة هي تماما كسكب ماء بارد على قطعة حديد تحتها نار ولظى ولهيب، سيحدث ذلك الصوت المدوى تأكيدا على أن الحقيقة الباردة قد جاءت لتطفئ هذا الجحيم، ومن ثم على العقلاء في المجتمع أن يعملوا جاهدين لقمع شياطين أعداء الحقيقة حتى يستتب الأمر للصلاح في الأرض.