الطيور لم تطير بأرزاقها!

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٧/فبراير/٢٠٢٢ ٠٨:٥٣ ص
الطيور لم تطير بأرزاقها!

بقلم : علي المطاعني

عندما يتداول البعض ظاهرة الثراء الفاحش في الفترات الفائتة التي إستشرت لدى بعض الشرائح في المجتمع بطرق غير واضحة منطقيا وعقليا ، والإحتمال الأقرب للتصديق إن ذلك تم من خلال إستغلال عنفوان السلطة والوظيفة وسطوة النفوذ وصولا لصيغة الكسب غير المشروع .وفي خضم هذه الجدلية يذهب البعض بعد أن تقمصته روح الإنهزامية والإستسلامية وهم ونتيجة لذلك يعيشون على هامش الأحداث إن لم نقل على هامش الحياة ، يذهبون للقول أن الطيور طارت بأرزاقها ، غير أن الحقيقة المثلى تجافي هذا المنطق تماما ، فما طارت به هذه الطيور ليس رزقها بل هو لغيرها ، ثم أن هذه النوعية من الطيور ليست كالتي نعرف ، هي طيور من نوع خاص أجنحتها ومخالبها ومناقيرها وريشها وكل شيء فيها يختلف تماما عن الطيور المعروفة ، هي طيور أدمية غير أن لها أجنحة ومخالب ومناقير ، ولم يرفع الله عنها القلم يوما ، فهي بالتالي محاسبة وتخضع تماما لمنطوق كل القوانين السماوية والوضعية ، إذ عليها أن تجيب على السؤال المحور وهو من أين لك (كل) هذا وليس من أين لك هذا؟.

وفي عرف الدين حرام ، وكل دول العالم التي تنشد العدالة الإجتماعية تحرص على تطبيق آليات النزاهة الشخصية في كل مفاصل الدولة ، والأخطاء التي ترتكب في هذا الصدد تتم المحاسبة عليها بغير هوادة وبغير رحمة أيضا ، ثم أن هذه النوعية من الجرائم لا تسقط أبدا بالتقادم ، وتلك نقطة جوهرية ربما تركن إليها هذه الطيور الجارحة والجامحة ، هي لا تسقط إلا بإعادة ما أخذ بغير وجه حق كاملا غير منقوص ، فهو ملك للدولة وشعبها ولن يكون يوما مال في مهب الريح.

الأمر إذن يتطلب إعادة النظر في تقييم ثروات الكثيرين ممن إستغلوا مناصبهم ومسؤولياتهم في الدولة لينهلوا من هذا النهر الجاري مايشاؤون ، هكذا محاسبة إنما تتم في إطار مرتكزات النهضة المتجددة والتي تمضي قدما للأمام لتثبت أركان العدالة الاجتماعية كمبدأ وشعار ومنهاج عمل.

في الواقع حديث الشارع لن يهدأ والمجالس لن تسكت عن هذه التباينات التي لايصدقها عقل ، والثراء الفاحش أصلا له لسان وشفتان وعينان ، ويتحدث بلسان عربي مبين بأنه يمثل أصحابه الذين كانوا عاديين جدا قبل تسلم أعباء الوظائف إياها ، في حين أن أقرانهم ممن لم يلتحقوا بوظائف حكومية تسير وتيرة ونمط حياتهم بالنحو الطبيعي ، فمن أثرى منهم فجهده واضح ومثابرته يعلمها الجميع في ردهات وأزقة الأسواق .

أما الذين لايراهم أحد في الأسواق ولا في ميادين التجارية ، هم أصحاب الوظائف العليا ، وهؤلاء هم أصحاب الثراء الفاحش ، إذن بالمنطق فإن الوظيفة هي التي صنعت كل ذلك ، وما من شك أنها قد وظفت لإختراق جبال المستحيل وصولا لأنهار العسل المصفى فنهلوا منه بغير جد ولا كد ولا إجتهاد ، هنا إختل ميزان العدل إن لم يكن قد أهيل عليه التراب أيضا .

إن النهضة المتجددة التي نحن بصددها الآن وكتفعيل لآليات ديمومتها وتحصينا لمحاسن روعتها تحتم علينا مراجعة كل الأخطاء وتقييم المراحل السابقة للإستفادة من إيجابياتها بعد ترسيخها ، والنأي عن سلبياتها وبالتالي وضع الأمور في نصابها الصحيح في البلاد على أسس أكثر منطقية وأكثر عدالة بين فئات وشرائح المجتمع .

ولعل مراجعة هذا الملف يعد من المتطلبات الشعبية الواسعة ومن شأن ذلك تهيئة الحاضر لإنطلاقة قوية لرحاب المستقبل الآتي بكل ثقة وبكل النزاهة والشافية والتطبيق تلك هي العدالة في معناها الأسمى ، و بدون ذلك فإن هواجس الأخطاء السابقة ستظل تلقي بظلالها القاتمة على الواقع الجديد ، ولن ينبثق الأمل كزهرة في نفوس الشباب ليقدموا الأفضل جهدا وعرقا من أجل عيون الوطن.

فرؤية عُمان 2040 لا تقاس بالمحاور والأهداف التي تتضمنها ولا بالمشاريع التي في حدقات عيونها ، بل بالثقافة والفكر الجديد الذي ينبثق من بين ثنايا مساماتها ، والذي لا يعرف معنى غير تكريس (العدل) في مفاصل المجتمع ، ومن أجل هذا العدل المذكور في القرآن كأمر من الله بتطبيقه كما ينبغي وكما يحب ربنا ويرضى ، فإن ذلك سيقودنا كأمر بديهي لمحاكمة كل من إستغل منصبه العام في التكسب وفي تحقيق ثراء فاحش أو غير فاحش فالوطن لن يكون نهبا لفئة من الناس حادت عن جادة الصواب . الشباب اليوم يسألون ويتساءلون كيف نمنح (السموحة) لمن أثرى أصلا على حسابهم وعلى عرقهم وضناهم ، في حين نطالبهم بخوض غمار العمل وبذل الغالي والنفيس لتحقيق ذواتهم في حين أن أولئك لم يخوضوا أي غمار يذكر ، وما نالوه وحصلوا عليه لن يصل إليه هؤلاء الشباب ولو استمروا في الوظيفة لـ 500 عام كاملة ، فأين العدل ، بل أين الإستواء هنا ، وهل هذا المشهد يدفعهم فعلا للتفاني والإيثار؟.

إن هذه الأوضاع يجب أن تكون من أولويات المرحلة المقبلة وكجزء من العملية التصحيحية ، فقد حدثت في إحدى دول المنطقة وسحبت بموجبها بلايين الدولارات من مسؤولين وعوائل تربحت على حساب الوطن والمواطن وبغير وجه حق.

ان كسر بل تحطيم مقولة الطيور طارت بأرزاقها تعد مطلبا وطنيا يجب أن نعمل على تحقيقه وتنزيله والإرتكاز عليه كأساس متين لنهضتنا المتجددة ، وكجزء من آلية إقناع المجتمع بأسس العدالة الجديدة ، وبدون هذا الإجراء فإن ذات الأخطاء ربما تطل برأسها من جديد لتعيق العمل الوطني في المرحلة المقبلة. نأمل أن نشهد بالفعل مرحلة تصحيحية ناضجة لتضاف إلى مرتكزات نهضتنا المتجددة ، ولتضيف زخما جديدا وفاعلا للمسيرة الهادرة وهي تمضي قدما للأمام لتحقيق تطلعات الوطن والمواطن في غد أرغد وأسعد.