بقلم: خالد عرابي
كنت في إحدى المرات مسافر من مسقط إلى دبي ، وتصادف أن كان في المقعد المجاورلى على درجة رجال الأعمال شخص بولندي ، واعتدت في السفر أن أميل إلى القراءة أو التأمل، أو حتى النوم في الرحلات الطويلة، كما اعتدت ألا أبادر بالحديث مع آخر في المقعد المجاور حتى وإن كنت أعرفه، خشيت ألا يكون لديه رغبة في الحديث، وبنا أن الأمور تأتي في غالب الأمر وفق ما يتمنى المرء، ففي أغلب الأحيان يصادف بألا يكون هناك حديث بيني وبين آخر في السفر.. الغريب في الأمر في هذه المرة أن وجدت أن هذا الجار في المقعد يفتح باب الحديث معي ويسألني إن كنت مقيم في السلطنة أم جئت لها للسياحة، وبالطبع أخبرته عن قصتي مع السلطنة وكيف جئت إليها راغبا في العيش لسنة واحدة وكيف عشقناها وأقيم بها منذ سنوات، وحدثته عن نهضتها وحضارتها وتطورها وعن أهلها الطيبين وسماحتهم وحبهم للآخرين مهما إن كانوا، كما وأخبرته عن الكثير مما يبهر الزائر لها بصدق فعمان وطبيعتها وشعبها وطباعه وبساطته وكرمه كفيلة لأن تؤثر أي شخص بحبها بل بعشقها.
وعرفت من جار السفر هذا أنه وزير يحمل حقيبة مهمة في الحكومة البولندية في ذاك الوقت الذي قابلته فيها، كما عرفت منه أنه كان ضمن وفد رسمي رفيع المستوى وأنهم جاءواإلى السلطنة في زيارة رسمية تستغرق بضعة أيام لبحث سبل التعاون بين البلدين ، وأنه بعد أن انتهت مهمته الرسمية ونظرا لأنه في منطقة الخليج فوجد أنها فرصة لزيارة دبي، غير أن المهم والأهم أنني وجدت أن كل ما حاولت من إيصاله له من إعجاب وإبهار بالسلطنة بلدا وقائدا وشعبا وحكومة كان لديه بل وأكثر، بل ووجدته يتحدث معي بإعجاب بل وانبهار فحدثني عن الكثير من الرؤى والملاحظات ومدى إعجابه بهذا البلد والشعب الطيب، غير أن واحدة من الأشياء التي كانت أكثر ابهارا له وأشاد بها كثيرا وأخذ يشرح لي تفاصيلها هي مدى إعجابه بـ البروتوكول والمراسم العمانية الفريدة في استقبال الوفود وكيف أنها رفيعة المستوى فكل شيء محسوب بدقة وعناية وكأنه بميزان حساس أو بالدقيقة والثواني في الحركة و الترحيب والحديث و المواعيد وكل تفاصيل الزيارات واللقاءات وعلى مستوى الجميع ، لدرجة أنه قال لي إن ما شاهده ووجده في تطبيق البروتوكول في عمان ربما لم يجده في دولة في الشرق الأوسط من قبل .
هذه الانطباعات والإعجاب الذي أبهر العالم اعتدنا أن نراه بالسلطنة في مظاهر كثيرة منها النهضة والتطور العماني والأمور الحياتية وكذلك السلم والسلام والتسامح، وفي أمور أخرى كثيرة مثل: الطيبة في التعامل والصدر الرحب لدى الشعب العماني الطيب المعطاء، غير أن الأمر الذي كان أكثر إبهارا للعالم مؤخرا - رغم أنه ليس بجديد لا على هذا البلد ولا حاكمها ولا حكومتها وشعبها- وهو ملحمة الحب والوفاء التي سطرها الشعب العماني الأبي بكل أطيافه من مسندم في الشمال إلى صلالة في الجنوب.. إنها "ملحمة شاهين الوطنية " التي لبى فيها الجميع نداء الوطن والواجب فهب عمان وهب رجالها هبة رجل واحد، فكانت وبحق " عمان نبض واحد " ورأينا الصغير والكبير،الشاب والشايب، الرجل والمرأة ، المواطن والمقيم الجميع يلبون نداء الوطن والواجب، وتجسدت مقولة "هبة عمان" صدقا وفعلا، لا قولا فقط، فقد هب الجميع هبوب الأعاصير ولكن في القوة والتلاحم والتضافر في نصرة إخوانهم من أهالي الولايات المتضررة وابرزها "السويق، الخابورة، والمصنعة" يمدون لهم يد العون في كل شيء بالمال والمؤن والعتاد وحتى السيارات والأثاث والأجهزة الكهربية وأي شيء فقدوه جراء تأثيرات هذا الإعصار.
رغم أنني أعود وأكرر أن الأمر ليس بغريب لا على عمان ولا شعبها الأبي الذي يضرب المثل ويمثل القدوة ، فقد سطر هذا الشعب الذي يبهر العالم دائما "ملحمة الحب والوفاء"في التلاحم والتأزر ونصرة الأخ في الملمات، فوجدنا عشرات بل مئات وآلاف النماذج التي يمكن أن يشاد ويشار إليها بالبنان كنماذج مضيئة ومشرفة كل في مجاله وبما يملك وما يمكن أن يقدم وأن يجود به، فوجدنا الأم المسنة التي جمعت -المسكينة- نحو ألف ريال هي كل ما تملك من حطام الحياة الدنيا، وكانت تدخرها ربما من قوت يومها و تزيد عليها كي تكمل مبلغ نفقات حجتها هذا العام، غير أنها رأت أن مساعدة من تضرروا من أخوانها وأخواتها بسبب الإعصار أولى و ربما يكون لها نصيب أخر للحج في العام المقبل، إلا أنه كان هناك الأكارم ممن عرضوا عليها القيام بتكاليف حجتها كاملة وفي هذا العام بإذن الله وليس القادم.
كما وجدنا الرجل المسن بل وقائد الجيش السلطاني العماني سابقا اللواء ركن متقاعد سعيد السالمي الذي سبق الشباب في تلبية نداء الواجب وكان في الميدان قبل الجميع وضرب القدوة والمثل ووجدناه في مقدمة الصفوف يدا بيد مع الشباب في تقديم كل سبل الدعم لإخواننا وأخواتنا ممن تضرروا.
كما وجدنا الأطفال الذين غمرتهم الوطنية والولاء والانتماء لهذا الوطن الحر الطاهر، فهذا طفل يبلغ من العمر بضع سنوات يجود بكل بساطة وتلقائية بكل ما يملك، إنها "حصالته" التي جمع فيها مصروفه اليومي ليقدم حصيلة مصرفه -الذي قد لايتجاوز بضع من الريالات- فداء للوطن الحر الأبي ليكون هو الآخر نموذجا رائعا في العطاء والولاء والانتماء، فأي نعم قدم القليل في القيمة المادية ولكن العظيم في القيمةالمعنوية .
وممن ضربوا القدوة والمثل وهم النموذج الأكبر و الأوضح دائما في أداء الواجب الوطن، إنهم رجال الشدائد والأمن والأمان، رجال قواتنا المسلحة الباسلة و رجال الأجهزة الأمنية والشرطة الذين يسطرون دائما وبأحرف من نور ملحمة وفاء حقيقية، فهم في قلب الحدث، ليس بعده لرفع أضراره فقط بل هم من قبل أن يقع وأثنائه يضحون بالغالي والنفيس بأرواحهم، فهذا فرد أمن معلق على حبل يتدلى من طائرة هليكوبتر لينقذ طفلا أو أب مسن أو شخص تقطعت به السبل ليجد نفسه وحيدا محاصرا بشبح مياه و رياح الإعصار يكاد يصارع الموت، غير أنه فجأة وبدون مقدمات يجد من يسقط عليه من السماء كملاك الرحمة يقول له لست وحدك، وليقول له نحن معك في هذا الوطن النقي المحترم، وطن السلم والسلام، والعدالة والتسامح و ينقذه ويربت على كتفه بكل عطف وحنو و يستمرليكمل مسيرة عمله في إنقاذ آخر.
وغير هذا وذاك من الفرق التطوعية بكل من ساهم فيها من المواطنين وحتى المقيمين الذين تطبعوا بطبيعة عمان وشعبها، وفي الحقيقة وكنوع من الإنصاف إنها ليست طبيعة عمان فحسب بل إنها حصاد ما زرع الأب المؤسس المغفور له بإذن الله تعالي السلطان قابوس بنسعيد - طيب الله ثراه- .
وحتى الإعلام وبعض مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي كانوا على قدر المسؤولية في أداء الواجب فكان التغريد الإيجابي وعلى قدر الحدث.. وحتى من بعض من خرجوا عن الصف وحتى إن كان هناك من أراد أن يدعي الوطنية أكثر من الآخر أو يزايد على الآخرين ممن اسماهم صديقي معاوية الرواحي وهو محق في ذلك "هذا البغيض الذي يتحدث إلى نفسه ويحاولأن ينال بعض المكاسب حتى في أصعب الأوقات ولو على حساب الوطن"، ويحاول أن يشير بسبابته إلى الآخرين وخاصة الحكومة ويتهمها بالتقصير أو الأخطاء ونسي أن هناك ثلاثة "أصابع" تشير إلى نفسه .. فهؤلاء قلة قليلة وبضع نفر يعدون على أصابع اليد الواحدة ولذا فلا يستحقون منا حتى الإشارة إليهم .. كما ضرب أصحاب الشركات والمؤسسات - و كما العادة- المثل في العطاء فكل أجاد بما يستطيع دون منى ولا أذى ، ودون فرض أو قصر، فوجدنا تبرعات بالملايين وعشرات السيارات وغيرها لأن العطاء متأصل بهم فقد اعتادوا على أن ينالوا من خير هذا البلد والوطن الطيب المعطاء فتلقائيا وبدون مقدمات لم يترددوا لرد ولو جزء بسيط من خير هذا الوطن عليهم.
ليس هذا التلاحم والتعاضد الداخلي فحسب بل هب العالم أجمع ليمد يد العون والمساعدة ولكن عمان الأبية تشكر الجميع لأنها في غنى عن هذا الدعم وأنها قادرة على مداواة وتضميد الجرح بأيدي أبنائها .
عاشت عمان حرة أبية تحت قيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه - وحماها الله وشعبها والمقيمين عليها وكل من وطأة قدماه أرضها من كل سوء ومكروه .