هندسة تنظيم الفرد والمجتمع

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢١/أبريل/٢٠٢١ ٠٩:٢٩ ص
هندسة تنظيم الفرد والمجتمع

بقلم : محمد الرواس

عندما جاء الرسول - عليه الصلاة والسلام - الى المدينة المنورة وجدها تحتوي على أنواع مختلفة من السلوكيات والأخلاق لمشارب وأنماط متعددة من الشخصيات البشرية، فقد كان هناك المسلمون (المهاجرون والانصار) واليهود، والمنافقون وغيرهم، وكان في سوق المدينة تحديداً قبل مجيء الرسول هناك ما يطلق عليه حديثاً في علم الاجتماع مصلحاً (السلوك الانفعالي أو الغريزي) وهو السلوك الذي يستخدم كوسيلة لا أخلاقية كالسرقة والكذب والغش والنفاق والنصب والاحتيال والشجار وإيذاء الاخرين والقتل، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كان معلماً، ومصلحاً، أعاد بناء شخصية الفرد المسلم في المدينة بحيث تكون شخصية مؤثرة وفاعلة اجتماعياً، فآخى بين المهاجرين والانصار، وبنى المسجد ليكون دار عبادة ومدرسة للأجيال، وانشأ سوقاً جديداً بالمدينة غير السوق الذي كان تلك السلوكيات الانفعالية الغريزية تسيطر عليه، وجاء بالآيات وبالقيم القرآنية، ونشر التوجيهات النبوية التي ساعدت على هندسة وتوجيه السلوك المجتمعي في المسار الصحيح فركز على تنشئة الأسرة المسلمة، من أجل تحقق الأهداف العليا النبيلة للفرد والمجتمع، وهذا ما يسمى اليوم بالهندسة الاجتماعية والعلاقات الإنسانية وهي تهدف بالدرجة الأولى لزيادة الارتباط وتعميق أواصر التآلف بين المجتمع والأفراد من أجل الوصول الى حالة من التماسك والوحدة مقصدها تحقيق الطموحات والأهداف السامية لبناء مجتمعات ترقى فيها مستوى العلاقات بين الناس لتصبح علاقات قوية متماسكة بدل ان تكون ضعيفة ومتفككة. ويمكن القول أن الهندسة السلوكية الاجتماعية والعلاقات الإنسانية لا يمكن ان يُقيمها الا المُصلحون الذين توجد لديهم المؤثرات الفاعلة لتحويل علاقات المجتمع من علاقات منفعة ليست ثابتة، يشوبها التغيير المستمر، الى علاقات ذات غاية واضحة، ملتزمة، وثابتة، يكون هدفها تحقيق الصالح العام للمجتمع، كذلك القيام بتحويلها من علاقات تنافسية هدامة الى علاقات تعاون وتكافل، وتلك هي القيم والمعتقدات الإلهية، والأفكار السليمة التي ينبغي ان يتمسك بها الافراد في المجتمع من أجل وجود مسار ونسق اجتماعي مرغوب فيه، وهو تنظيم للعلاقة بين الافراد مدعوم بتشريع ديني قانوني. ولقد تابع عليه الصلاة والسلام تنفيذ قيام هذا السلوك المجتمعي حتى أصبح مطبقاً فعلياً، وعملياً، واصبح المجتمع المدني بهذه السلوكيات الحميدة يخدم تنمية كافة شرائح المجتمع في المدينة المنورة في السي على هذا المنهاج النبوي السليم، ومما عالجه النبي - صلى الله عليه وسلم - في جانب علم النفس الجنائي بالمدينة المنورة قيامه من خلال الحوار البناء بتقديم الحلول للسلوك الجرمي وفهم دوافعه ومسبباته عند قيام البعض بالتصرفات الشاذة، ولقد كان للنقاش الذي تم بين الرسول عليه الصلاة والسلام والشاب الذي قال للرسول: (يا رسول الله ااذن لي بالزنا!) فأقبل عليه الصحابة فزجروه فقال الرسول «ادنه!» فدنا منه قريباً فقال له: «أتحبه لأمك؟» قال (لا والله، جعلني الله فداءك) قال النبي: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم»، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أتحبه لابنتك؟» فقال: (لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك)، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: « ولا الناس يحبونه لبناتهم»، فقال: « أتحبه لأختك؟» فقال الشاب: (لا والله، جعلني الله فداءك)، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: « ولا الناس يحبونه لأخواتهم» فقال « أتحبه لعمتك؟» فقال الشاب: (لا والله جعلني الله فداءك) قال النبي عليه الصلاة والسلام: « ولا الناس يحبونه لعماتهم» فقال: « أتحبه لخالتك؟» فقال الشاب: (لا والله جعلني الله فداءك) فقال النبي عليه الصلاة والسلام: « ولا الناس يحبونه لخالاتهم» فوضع النبي يده على الشاب فقال: « اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه» فلم يكن بعد ذلك الشاب يلتفت لشيء - رواه احمد بإسناد صحيح- ومن خلال هذا الحوار وبعد ان تأكد الرسول عليه الصلاة والسلام من أهلية الشاب والقياس النفسي له ومدى اتزان عقله، عندها لقنه درس ليجعله يحجم عن ارتكاب مثل هذا الجرم الأخلاقي، فلقد كان حرصه عليه الصلاة والسلام لإنقاذ الشاب من هذا الجريمة الأخلاقية من خلال وضعه للأسئلة والاستفسارات التي سألها للشاب بهدف تحليل الشخصية، بجانب اعطائه الفرصة لتجنب النتائج السلبية المحتملة لمثل هذا الجرم الأخلاقي، وعليه يمكننا أن نستخلص مما سبق ان ما قام به الرسول - عليه الصلاة والسلام - من تعزيزعملية التواصل والألفة بين أفراد المجتمع بالمدينة وتعزيز السلوك الإيجابي كان يتم تزامناً مع التركيز على تكثيف النضج للشخصية الفردية الاجتماعية لتكون أكثر أيجابية، مما جعلها تتخطى الصعوبات فتم القضاء على الأمراض الاجتماعية وأقامة مجتمع سليم تسوده القيم الفاضلة.