بقلم : علي المطاعني
أعز مكان في الدنى سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب
لم يعد فاعلا كما كان ، لقد أطيح أو أحيط به ، والسائد الآن (خير جليس في زمان واتساب) هذه الحقيقة الصادمة أضحت سلوكا سائدا إزاء التعاطي مع القراءة والكتاب والتي أنجرفت أو إنحرفت مع الموج العارم والسيل الهادم لإفرازات الانترنت .
حدث ويحدث هذا وسط هواجس ومخاوف كبيرة على إنعكاسات هذا الوضع الجديد على ثقافة ووعي الشعوب وعلى قدرتها على التفكير العميق في المستقبل وإرهاصاته وسط هذا (التسونامي الأنترنتي) الذي عصف بنمط حياتنا وسرق أوقاتنا وسيطر على ممارساتنا وأجبرنا على التركيز على شاشات الهواتف النقالة على مدار الساعة لقراءة محتوى التسلية تارة والإستهلاك تارة أخرى ، وتبادل النكات والمقاطع الخادشة للحياء أحيانا ، الأمر الذي ينذر بتغيرات واسعة في تشكيلة ثقافة الشعوب والمضي بها شيئا فشيئا إلى حافة الهاوية هذا إن لم يكن السقوط لقاع الهاوية قد حدث فعلا .
وفي إطار هذه الجدلية نجد بأن الوطن العربي الذي ننتمي إليه يعد الأسوأ على الإطلاق في مستويات القراءة الورقية وإذا كان الأمر كذلك فهو من زاوية أخرى نجده في المقدمة في منظومة النهم الأنترنيتي الجامح ، ونحسب بأن هذا الإختلال المخيف يعود إلى الأنظمة الدراسية التي لم تفلح على ما يبدو لجعل القراءة والكتاب وبما فيه كتابنا الأعظم منهجية أساسية في حياتنا اليومية .
بل أن العملية التعليمية لم يتم ربطها بإحكام بالقراءة الجادة التي تعمق الفكر وتوسع المدارك وتشحذ خيال الإبداع الأدبي الرصين ، وفي المقابل إستطاعت وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي وبما تملكه من مغريات بصرية ورسومات وتصاوير تخطف الأبصار أستطاعت بناء حائط شاهق العلو مابين الأجيال الجديدة وما بين الكتاب الورقي أو الصديق القديم الذي لايمل عنك ولايميل إلا إليك ، فبقي الكتاب ينتظر لحظات نفض الغبار عنه وإذ هو ما برح في رفوف المكتبات والبيوت يلوك مرارة الإنتظار الطويل .
واقعنا في السلطنة لايبعد كثيرا عن هذه المأساة التي تعايشها شعوب كوكبنا وبنسب متفاوتة ، وهو ما يهمنا التركيز عليه ومعالجته من خلال شحذ همم نهم القراءة بإعتبارها الأساس لبناء المعرفة العميقة والحقيقية وإرساء دعائم الفكر المستنير والثقافة الراسخة القائمة على عمد وأركان صلبة لا تهزها ريح ولا تقتلعها عواصف ، وهي وحدها القادرة على بناء الأوطان من خلال تنشئة أجيال المستقبل من المتعلمين القادرين على حمل لواء التقدم والإزدهار ، إلا أن ذلك لا يمكن حدوثة وتنزيله لأرض الواقع من خلال الأمنيات والتطلعات الوجدانية فقط التي ستبقى كأماني ليس إلا ما بقيت بعيدة عن الواقع والممارسة الفعلية الرامية لقلب المعادلة هذا إن أردنا النجاة ، وما لم يحدث ذلك فإن وسائل التواصل الإجتماعي لن تستولي على أوقات القراءة الورقية الموؤدة فقط ، بل على تفكيرنا في مجملة وتعمل على تسطيحه ومساواته بالأرض ثم تشرع بعد ذلك في دفنه على ذات الأرض وسيتمحور هذا الفكر المغبور على وجبات المطاعم أحلاها وألذها ، وقهوات المقاهي وموضات الفانش وموديلات الإعلانات ومسابقات أطول سندويشه وأجمل عمارة ، وأكبر سمكه وغيرها من قضايا يندى لها الجبين خجلا.
فاليوم ووفق إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات فإن أكثر من 94% من العُمانيين يستخدمون وسائل التواصل الإجتماعية بمتوسط 6 ساعات يوميا ، وأكثر الوسائل إنتشار الواتساب بنسبة 93% ، يليه اليوتيوب بنسبة 70% ، وإنستجرام بنسبة 50% .
وعبر هذه الإحصائيات يتبين لنا حجم المشكلة تماما ، وفي إطار رحلة البحث عن حلول يجب البدء بخطوات عملية أولها إلزام الطالب بالكتاب والبحث العلمي والتوسع فيه ليس إلكترونيا فحسب وإنما قرائيا وورقيا كأحد المسلمات التي يجب فرضها لإستعادة تفكير الأجيال وتغيير منهجية البحوث والدراسات المعتمدة على المراجع العلمية وليس على البحوث العنكبوتية ، فضلا عن التوعية بالقراءة وإقامة المسابقات للتشجيع على القراءة والحض على إرتياد معارض الكتب وغيرها من وسائل التحفيز ، وليتسنى لنا مواجهة إجتياح وسائل التواصل الإجتماعية وتغولها السافر على القراءة والكتاب وأهمية التوازن بينهما وبما لايخل بالمستويات الفكرية مستقبلا لدى إجيالنا المتلاحقة.
بالطبع هناك فئات من الأجيال الشابة ما برحت تواظب على القراءة وتتمسك بها وترى فيها المطية الأعلى للدلوف على العلوم والمعارف، إلا أن السواد الأعظم من الأجيال الجديدة لازالت حبيسة سجون الهاتف، هؤلاء نسال الله أن يفك أسرهم ويعيدهم إلينا سالمين غانمين.
نأمل من الجهات المختصة التفكير في آليات جديدة تعيد شبابنا وأجيالنا إلى وعاء المعرفة والثقافة الأكبر والأعظم ألا وهو الكتاب، وبنحو ينسجم مع حجم التحديات الثقافية والفكرية السالبة عابرة الحدود إنترنتيا.