علي بن راشد المطاعني
في الوقت الذي سمحت فيه الحكومة من خلال اللجنة العليا المكلفة بمتابعة آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا بعمل 70% من الموظفين في أجهزة الدولة بنظام (العمل عن بُعد) أي من منازلهم، كإجراء احترازي للوقاية من انتشار فيروس كورونا، إلا أنه وللأسف فإن الكثيرين منهم استوعبوا الخطوة بنحو خاطئ ومعاكس لمعناها ومغزاها، إذ اعتبروها إجازة مفتوحة وليس عملا رسميا مدفوع الأجر ولا يختلف عن نمط العمل التقليدي.
فالمفهوم المتقدم والحضاري لمنظومة العمل عن بُعد وكما تم استيعابه قبل سنوات طويلة مضت في الدول المتقدمة هو أنه ألغى مسألة الرقابة والمتابعة للموظفين والتي يقوم بها الرئيس المباشر للموظف ورؤساء الأقسام، وجعل من الموظف هو نفسه رئيس نفسه وهو نفسه رئيس القسم، وهذا ما يُسمى ب (الرقابة الذاتية) وعمادها شيء يُسمى ب (الضمير)، وهناك من أكبروا هذه الثقة التي أولتها الدولة للعاملين لديها، فكان أن أنكروا ذواتهم واستطاعوا تكبيل شياطين أنفسهم ومضوا في العمل عن بُعد بكل هِمَّة ونشاط، حدث هذا قبل وقوع هذه الجائحة بأعوام فاستفادت الدولة من النظام في تخفيض التكاليف المترتبة على حضور الموظف للمؤسسة أو الوزارة التي يعمل بها فكان الريع جيدا للدولة.
غير أن البعض لدينا وليس كلهم - حتى لا يقع ظلم - اعتقدوا بأن وجودهم في البيت يعني بأنه لا رقيب ولا حسيب عليه، وما حدث هو أنهم عطّلوا مصالح الناس بنحوٍ مؤسف ولم ترتقِ روح المسؤولية لديهم لذلك السقف العالي، هنا وقع الاختلال في تطبيق المنظومة الحضارية (العمل عن بُعد).
لنكن أكثر وضوحا بأن هذا المفهوم لن يتحقق له النجاح أبدا إن لم يرتقِ الموظف بنفسه للسقف المأمول وهو المعيار الوحيد لنجاح التجربة. لقد وضعنا كورونا أمام أنفسنا وجها لوجه وفاجأنا باختبار فوري عن مدى جاهزيتنا للتعامل مع الملمات الطارئة والمفاجئة فوجدنا أنه لا مناص من الدخول لمعترك التجربة فكان الظن الحسن مقدما على غيره في موظفينا فمنهم من التزم وتفهَّم، ومنهم من خيّب الظن فيه كما أوضحنا.
وفي مطلق الأحوال فإن من أخذ الأجر حاسبه الله بالعمل وهذا أمر متفق عليه فقهيا، فلا يمكننا عقلا أن نقبل مالا والمفترض جدلا ومنطقا أنه آل إلينا نظير عمل قدّمناه واستفاد به ومنه عباد الله، غير أن العمل المفترض لم ننجزه أصلا، إذن كيف استحللنا الأجر؟ منطق لا يجوز ولا يقبله عقل سوي، إذن ما أخذناه يقع بالتأكيد في دائرة المال (الحرام) والذي لا يجوز أن نُطعم منه أولادنا لأن ما نبت من سحت فالنار أولى به.
نخلُص من ذلك أن مثل هذه التصرفات والممارسات الخاطئة تبطئ من رغبة الدولة من المُضي قُدما في السير في ركب التحضر والتمدن، وقد تجد نفسها مضطرة إلى الحفاظ على النظام القديم والذي تخلى عنه العالم، ذلك يعني أننا نسير عكس التيار.
وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر فقد حدّثني صديق عن أقصوصة لموظف أجنبي في أحد مواقع العمل بالصحراء اضطر لظرف قاهر خاص به أن يقتطع ساعة ونصف من وقت العمل للوفاء بذلك الظرف، غير أنه وبعد أن عاد ضاعف وقت عمله ثلاث ساعات متواصلة تعويضا عمّا اقتطعه من وقت العمل الرسمي، فمتى يا ترى سنصل إلى مثل هذا الالتزام؟ وأي تطوُّر ننشده سواء عملنا عن بُعد أو عن قرب فالنتيجة سواء، والله المستعان.
بالطبع ولله الحمد هناك من يعمل بضمير حي وولاء للعمل منقطع النظير ليلا ونهارا والأمثلة بالقطع حاضرة في أجهزة شرطة عُمان السلطانية وقوات السلطان المسلحة وكافة القطاعات الأمنية وفي المرافق الصحية والإعلام واضعين نصب أعينهم حقيقة أن العمل رسالة مقدّسة قبل أن يكون وظيفة مدفوعة الأجر، وهذا هو المفهوم الذي نصبو لنراه مترسخا في كل الأذهان.
نتطلع لأنْ تكون هذه الأزمات فرصة حقيقية لتقييم جاهزيتنا للعمل في الظروف الاستثنائية وذلك من بعد تفعيل مؤشرات تقييم الأداء والمسماة ب KPiS في كافة الدوائر والمديريات والجهات، هذا إنْ أردنا الانعتاق مما نحن فيه لنتطلع بعدها للحاق بالركب الأممي.