بولندا والمسألة اليهودية

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ١٢/فبراير/٢٠١٨ ٠٥:٣٦ ص

سوافمير سييراكافسكي

أوجدت الحكومة البولندية أزمة دولية أخرى، وهذه المرة من خلال تبني قانون كان المقصود منه ظاهرياً مكافحة عبارة «معسكرات الموت البولندية». ويستهدف القانون الاختزال الجغرافي، الذي يُستَخدَم في الخارج أحياناً، لوصف معسكرات الإبادة التي أنشأها النازيون على الأراضي البولندية خلال الحرب العالمية الثانية. لكن هذا التحرك ينطوي على ما هو أكثر من ذلك.

عندما يتحدث البولنديون عن جيتو وارسو، لا يرى أحد مشكلة في هذا. وعلى نحو مماثل، لا أحد ممن يستخدمون عبارة «معسكرات الموت البولندية» ــ بما في ذلك الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الأسبق جيمس كومي ــ يفعل هذا بدافع من سوء نية تجاه بولندا. وبوسعنا أن نجد مثل هذه العبارات حتى في الكتب المدرسية البولندية، مثل كتاب زوفيا ناوكفسكا البديع عن الهولوكوست بعنوان «ميدالية». ومع ذلك، يعتقد كثيرون من البولنديين أن هذه العبارة تضلل الناس في الخارج.

هذه ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها الساسة البولنديون ضد «معسكرات الموت البولندية»، ولا تقتصر جاذبية هذه القضية على حزب القانون والعدالة الحاكم. كان أول من تناول هذه القضية وزير الخارجية البولندي الأسبق ريديك سيكورسكي. لكن القانون الجديد لا يذكر معسكرات الموت. وهو يجرم إلقاء اللوم على البولنديين عن أي إيذاء لحق بأي أمة أخرى. ورغم أن القانون يضم إعفاءات للنشرات العلمية والأعمال الفنية، فإنه ينطبق على الكتابة الصحافية، ويشكل تهديدا للحوار العام المفتوح.
ويستحق الأمر أن نورد هنا الصيغة التي تهمنا في التشريع:
«كل من يسند المسؤولية أو المسؤولية المشتركة، علنا وزورا، إلى الأمة البولندية أو الدولة البولندية عن الجرائم النازية التي ارتكبها الرايخ الألماني الثالث (...) أو عن الجرائم التي تشكل جرائم ضد السلام، أو الجرائم ضد الإنسانية، أو يسعى بطريقة أخرى إلى التقليل بشكل ملحوظ من مسؤولية الجناة الحقيقيين عن هذه الجرائم يعرض نفسه للغرامة أو السجن لمدة تصل إلى ثلاث سنوات».
وقد ردت السفارة الإسرائيلية في وارسو بسؤال مزعج: هل يتعرض الناجون من المحرقة الذي يدلون بشهادتهم حول تاريخهم الشخصي للمسؤولية الجنائية أيضا؟ وهدد الكنيست بتبني تشريع يقضي بتصنيف التقليل من الدور الذي لعبه البولنديون الذين شاركوا في المحرقة كجريمة. وقد حظي مشروع القانون بتأييد 61 من أصل 120 عضوا في البرلمان الإسرائيلي.
قبل أن يتبنى مجلس النواب ومجلس الشيوخ في بولندا القانون، أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية البيان الأكثر حدة ضد بولندا منذ العام 1989، فحذرت من «التداعيات التي قد يجلبها مشروع القانون، في حال إقراره، على مصالح بولندا وعلاقاتها الاستراتيجية ــ بما في ذلك مع الولايات المتحدة وإسرائيل». وكان وزير خارجية أوكرانيا المجاورة الأسبق أكثر فظاظة حين قال: «لم تعد بولندا شريكاً استراتيجياً لأوكرانيا. فاليوم، تهدد بولندا بعرقلة تكاملنا مع أوروبا».
الواقع أن بولندا تخاطر بعلاقاتها مع حلفائها الثلاثة الأكثر أهمية ــ الولايات المتحدة، وألمانيا، وأوكرانيا ــ التي تسامحت حتى الآن مع السلوكيات الغريبة التي يبديها ياروسواف كاتشينسيكي، زعيم بولندا الفعلي بحكم الأمر الواقع. والآن تواجه بولندا خطر العزلة من جانب الغرب وخسارة النفوذ الدولي، الأمر الذي يمكن ان يضع بولندا في المحور الروسي.
على الرغم من الرعب الواضح بين أعضاء النخبة البولندية إزاء هذا القانون، فإن كاتشينسكي لن يتراجع عنه. من الواضح أن كاتشينسكي، مثله كمثل شقيقه التوأم المتوفي ليش كاتشينسكي، ليس معادياً للسامية. فأثناء رئاسته، كان ليش كاتشينسكي عدوا لمعاداة السامية في بولندا،. والواقع أن حكومة بولندا ربما كانت حتى الآن الحكومة الأكثر تأييدا لإسرائيل في أوروبا، وهي الحقيقة التي انعكست في امتناعها عن التصويت مؤخرا في الجمعية العامة للأمم المتحدة لإدانة اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل.
لكن يارسواف كاتشينسكي، الذي كانت شعبيته ذات يوم مقيدة من قِبَل شقيقه، هو الذي صاغ هذا التشريع الجديد على نحو يحابي المصالح السياسية لحزب القانون والعدالة الذي يتزعمه، وذلك من خلال الإيقاع بالناخبين الوسطيين رهينة له فعليا. فالتشريع لا يثير استياء هؤلاء الناخبين لأن فكرة حظر عبارة «معسكرات الموت البولندية» تبدو حميدة.
من ناحية أخرى، بعد طرد الساسة اليمينيين الأكثر تطرفا من الحكومة (وزير الخارجية فيتولد فاتشيكوفسكي، ووزير الدفاع أنتوني ماتشيريفتز، ووزير البيئة يان شيشكو)، يحتاج كاتشينسكي إلى استعادة ثقة ناخبي حزب القانون والعدالة من أقصى اليمين. وسوف يسرهم أن تتصدى بولندا لإسرائيل، وأوكرانيا، بل والعالم أجمع.
يتضح النهج الهازئ الذي يتبناه حزب القانون والعدالة من حقيقة مفادها أن حتى أعضاءه من الرواد يعترفون بالدور الذي لعبه البولنديون في اضطهاد اليهود. فقبل شهر واحد، قارَن ريزارت تسارنيتسكي، عضو حزب القانون والعدالة ونائب رئيس البرلمان الأوروبي، بين أحد أعضاء البرلمان الأوروبي من المنصة المدنية المعارضة وأحد الانتهازيين الذين ابتزوا اليهود الذين كانوا يختبئون من النازيين أو أولئك الذين كانوا يوفرون لهم الحماية.
بصرف النظر عن أن رؤساء أربع مجموعات برلمانية جاء ردهم بالدعوة إلى إقالة تسارنيتسكي من منصبه، أو أن رئيس الوزراء البولندي ماتيوز موراويتسكي دافع عن تسارنيتسكي، ألم يكن في إدانة تسارنيتسكي للانتهازيين اعترافا بأنه بالإضافة إلى البولنديين الذين أنقذوا حياة اليهود، كان هناك بولنديون أرسلوا اليهود إلى حتفهم، كما وثق بشكل دقيق مؤرخون بولنديون مثل جان جروس، وإيرينا جرودزينتسكا، وباربارا إنجلكينج، وجان جرابوفسكي، وجيريك ليوسياك، وداريوس ستولا، وغيرهم؟
والآن، بعد شهر من إعلان أحد كبار المسؤولين في حزب القانون والعدالة عن وجود مثل هؤلاء البولنديين، عمل الحزب على إثارة الصورة العامة لعبارة «معسكرات الموت البولندية»، في محاولة سقيمة لقمعها. وكما عَلَّق رئيس الوزراء الاسبق دونالد تاسك على تويتر: «كل من ينشر العبارة الزائفة معسكرات الموت البولندية، فإنه يلحق الضرر باسم بولندا ومصالحها. وقد روج واضعو التشريع لهذا الافتراء الخسيس على الساحة العالمية بقدر من الفعالية أكبر من أي وقت مضى».
الحقيقة هي أن القانون الجديد أذيع رسميا في الذكرى الثالثة والسبعين لتحرير أوشفيتز، وقبل الذكرى السنوية الخمسين مباشرة للحملة المعادية للسامية التي شنتها الحكومة الشيوعية البولندية في العام 1968، والتي أسفرت عن هجرة 20 ألف بولندي، مما حرم البلاد من بعض من ألمع عقولها. وحتى الآن، هناك تشابه صارخ بين هذين الحدثين: فكل منهما كان بمثابة ضربة موجهة إلى بولندا في حين عمل على تغذية الحماسة القومية بين «الناخبين الوطنيين». ونتمنى أن يكون هذا وجه التشابه الوحيد يبنهما.

مدير معهد الدراسات المتقدمة في وارسو