محمد محفوظ العارضي
عندما تخطط الأمم لغدها وترسم مسار مستقبلها، تبرز في هذا السياق جملة من الأسئلة، أهمها: ما هو مخزون هذه الأمة الذي يضمن أن تصل بمسيرتها حيث تريد؟ ماذا تمتلك من ثروات؟ وعلى أي أسس ستراكم منجزاتها. تداهمني هذه الأسئلة وغيرها كلما قرأت أو تابعت مسيرة برنامج «تنفيذ» ومهما تمعّنت في التفكير لا أجد سوى جواب واحد يختصر كافة الإجابات الأخرى: المواطنة والانتماء وحب العمل. هذه القيم وإن اشتركت فيها كافة الشعوب، يبقى الشعب العُماني متميزاً ومتفوقاً في علاقته التاريخية بمعانيها وأبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
إن الكتابة عن القيم المعنوية، تفرض نوعاً مختلفاً من اللغة والتحليل، فاللغة المستخدمة عند الكتابة عن أحوال السوق على سبيل المثال، تختلف من حيث عمق التحليل عن الكتابة عن العاملين في هذه السوق، وإن كان الموضوعان للوهلة الأولى يصنفان تحت بند واحد، وهو الاقتصاد. هكذا شعرت عندما نويت كتابة هذا المقال حول المواطنة والانتماء والعمل، ولكي أخرج من باب الالتزام بالنص التقليدي، تساءلت: هل حقاً لدينا نقص في المواد التي تناولت هذا الموضوع أو في تنوعها وثرائها الذي لم يترك مجالاً إلا وطرحه للبحث والنقاش؟ وهل تجب الكتابة مرةً أخرى من المنطلق نفسه وبالأسلوب نفسه وعن الحقائق ذاتها؟
من الصعب تناول القضية ذاتها من المدخل نفسه في كل مرة، كما أنه من الصعب أيضاً الحديث بمنطق علمي مجرد عند تناول قضية بهذا الحجم، تعبّر في مدلولاتها عن معاني الانتماء والوفاء للواجب الوطني قبل أي معنى آخر.
بعض الظواهر والمشاعر الإنسانية من المستحيل تفسيرها أو قراءتها باللغة العادية، إذ كيف نفسّر مفهوم الانتماء للوطن؟ هل نكتفي بوصف العلاقة بين الإنسان والجغرافيا؟ ولماذا نشعر تجاه جغرافيا معيّنة ما لا نشعر به تجاه أخرى؟ لماذا يطرق قلبنا فرحاً، وترتجف مشاعرنا وجلاً، عندما يُذكر اسم الوطن، بينما لا نعيش ذات المشاعر عند ذكر أوطانٍ أخرى؟هل نكتفي بوصف العلاقة بين المواطن والدولة كمؤسسة حكومية؟ وفي هذه الحال، ماذا سيحصل لو أن هذه المؤسسة تغيّرت؟ هل سيتغيّر مفهوم الانتماء؟ الجواب الذي تدعمه التجربة هو حتماً لا. إن الانتماء للوطن والاستعداد للعمل على خدمته مسألة وجدانية بامتياز، تتجاوز في عمقها كافة التوصيفات التقليدية المادية.
إننا أمام قضية تجمع من المعاني والدلالات والقيم والأخلاق ما يجعل من اختزالها في سطور مقالةٍ واحدةٍ إجحافاً كبيراً بحقها. لقد اكتسب الإنسان في سياق تطوره التاريخي كماً هائلاً من القيم والمفاهيم والأخلاقيات، ومع تطور تجربته وتفاعل هذه التجربة مع محيطه الاجتماعي، كان في كل مرحلة يختبر ما اكتسبه من مفاهيم بواسطة علاقاته الاجتماعية، أي مدى ملاءمتها لكونه كائناً اجتماعياً لا يمكنه العيش إلا في هذا الإطار الاجتماعي حيث لكل دوره الذي يمنحه التميّز عن غيره، ويعطيه مكانته الوظيفية التي من خلالها يؤدي واجبه في الحفاظ على رفعة شركائه الاجتماعيين.
لقد عززت التجربة تلك القيم التي تتوافق مع محيطه، ونبذت كل ما يتناقض معها، حتى وصل الإنسان إلى درجةٍ من الوعي يستطيع بواسطته أن يختصر كل ما اكتسبه من معارف وعلوم ومشاعر بكلمةٍ واحدةٍ، ألا وهي الانتماء لمحيطه الذي يتشارك معه نفس التجربة بخصوصيتها التي أنتجت كل ما هو مشترك من قيم وجدانية.
وعندما أصبح الإنسان منتمياً وملتصقاً بمحيطه الاجتماعي، يتقاسم معه الأحلام والمصير، صار من الضروري أن يبتكر وسيلةً ماديةً يعبّر من خلالها عن انتمائه. فكان العمل هو التعبير الأسمى والأقوى الذي من خلاله استطاع الإنسان أن يترجم هذا الانتماء ويستثمره عبر الجهد الذي يتقاسمه مع غيره لتأمين احتياجات المجتمع وتحقيق كفايته وتعزيز وحدته. وأصبح العمل هو الاسم الآخر للانتماء أو الاسم الآخر للمواطنة.
ومع تطور الشكل الحديث للدولة، وتزايد الضغوط التي تفرضها ضرورات تطورها على المواطن، بحيث تضعه أمام مسؤولياته التي لا فكاك منها، نشطت العلوم الاجتماعية في ابتكار معايير محددة لقياس مدى الانتماء والمواطنة. اعتمدت بعض الدول مدى مساهمة الفرد بالناتج المحلي لقياس المواطنة، والبعض الآخر يعتمد معايير الانضباط للقوانين والحفاظ على السلم الاجتماعي، بينما وفي القرن الحادي والعشرين حيث الزمن الذي طغت فيه المعايير المادية على الوجدانية، يأبى الشعب العُماني إلا أن يكون متميزاً في نظرته ومفهومه للعلاقة بين المواطنة والانتماء والعمل، ليعتمد مقياس الانسجام الاجتماعي وتناغم مكوّناته كافة ووحدتها خلف برنامج «تنفيذ» وما يترتب عليه من جهد وإبداع في إنتاج أشكال جديدة من الاقتصاد، وكأنه يقول للعالم إن الاقتصاد السليم ليس إلا نتاجاً لعلاقات اجتماعية سليمة ووعي اجتماعي سليم.
إن هذا الفكر المتميّز الذي يتبنّاه كل مواطن عُماني، بل كل مقيم على أرض السلطنة، ما هو إلا نتاج تاريخ طويل من السياسات الرسمية التي تبنّتها السلطنة بقيادة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم، حيث جاءت هذه السياسات منسجمة مع جذور الثقافة الشعبية العُمانية التي تمجّد العمل والإيثارية والانغماس في الهمّ اليومي للوطن.
لم نشهد خلال تاريخ سلطنتنا أي نوع من التناقض بين الثقافة الشعبية والسياسة، أو بين القرارات ذات البعد العملي المادي وبين الوجدان الشعبي للعُمانيين. هذا الانسجام بين توجهات المجتمع العُماني، أسّس بدروه للانسجام بين كافة مكوّنات الهوية الوطنية العُمانية... انسجام سنظل نعتز بأننا حافظنا عليه وسط أكثر الظروف العربية تعقيداً ليكون نموذجاً عمّا نريد ونتمناه لغيرنا من الشعوب.
لذا كان من الطبيعي أن تستفز هذه الحكمة السياسية سؤالاً رئيسياً في وجدان كل مواطن: كيف نترجم بدورنا حقيقة أن المواطنة والانتماء هي علاقة عطاء وحب متبادل بين المواطن والوطن، بين الفرد والحكومة؟ كيف نمارس دورنا للحفاظ على هذه المعادلة؟
إن الجواب بكل بساطة هو العمل، فليس هناك ما هو أكثر سمواً من العمل عندما يصبح في الحرص على إبداعيته وتميّزه، مجال تنافس بين المواطنين والمؤسسات لإظهار مدى الالتزام بالواجب الوطني والإنساني تجاه السلطنة ومسيرتها الحضارية. إن العمل مواطنة في تعبيره عن الانتماء، والعمل عبادة في تعبيره عن رقي الإنسان وتميّز نوعه، والعمل هو الترجمة الوحيدة عند الحديث عن رفعة الأوطان وازدهارها واستمرار تفوّقها.
هذه هي الجذور التاريخية لعلاقة المواطن العُماني بالعمل، وبرنامج «تنفيذ» بما يشمله من تحفيز على الإبداع ليس إلا استثماراً في تاريخنا وثقافتنا وعاداتنا وقيمنا الاجتماعية والإنسانية، وهذا النوع من الاستثمار ينتج أطيب الثمر، إذ يحافظ على المكوّن الأصيل للوجدان الوطني من ناحية، ويحوّله إلى طاقة وقوة للإنتاج والإبداع من ناحية أخرى.
رئيس مجلس الإدارة التنفيذي في انفستكورب
محمد محفوظ العارضي