فلسـطنة الأقصى

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٧/يوليو/٢٠١٧ ٠٤:٢٠ ص
فلسـطنة الأقصى

جمال زويد

يُروى في ناصع تاريخنا الإسلامي المجيد، ونقلاً عن كتاب عيون الروضتين لمؤلفه القاضي ابي شامة شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي أن شابّاً من بيت المقدس كتب إلى الناصر صلاح الدين الأيوبي رقعة جاء فيها: «يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكّس، جاءت إليك ظلامة تسعى من بيت المقدس: كل المساجد طهّرت وأنا على شرفي منجّس» وكتب في آخرها: «نشتاق لنسمع الأذان من الأقصى». حينذاك بكى القائد الكردي – ليس عربياً – صلاح الدين حتى بلّت دموعه الرقعة وأسّس من ساعته جيشاً جعل مهمته تحرير الأقصى؛ وقد كان له ما أراد.

لكن مضت الأحداث وتوالت السنون حتى غدت فلسطين بما فيها الأقصى محتلاً وأسيراً بأيدي الصهاينة، ليواجه المسلمون والعرب هذه القضية الفاجعة، ويضعوها في مقدّمة قضاياهم، لا تنافسها قضايا أخرى. كانت ملء أسماعهم وأبصارهم، تتصدّر أحداثها جميع وسائل إعلامهم، هي أحاديث الناس في بيوتهم ومجالسهم. كان الأقصى الشريف هو القلب النابض الذي يجمع عند المساس به كل الأطياف والانتماءات – على اختلاف توجهاتهم – يتوحدون كلهم لنصرته، وتكون القدس هي نشيدتهم، وتحريرها أمنيتهم التي يشتاقون إلى تحقيقها، لا ينازعهم في ذلك أي شأن آخر.

حينذاك؛ كان المساس بالأقصى - أي مساس - كفيل بأن تضطرب له الموجات الهادئة عند الشعوب وتتحوّل إلى مظاهرات عارمة ومسيرات غضب هادرة واعتصامات واحتجاجات تهزّ العالم الإسلامي وتموج فيه من مشارقه إلى مغاربه، فتضطر هذه الهبّات الجماهيرية المحتلّين والمتآمرين ومعهم المتواطئين للتراجع والانصياع لـ (فزعة) الشعوب والخوف من استمرارها وبالتالي تفاقمها.
وكان ذلك قبل أن تسير – للأسف الشديد – في الأنهار مياه آسنة، فتتغيّر الأمور وتختلط الاهتمامات، فتُبلى القضية (الأم) وتُبتلى في أصول كانت ثابتة وأساسية، لم يخطر على بال أسوأ التقديرات والتوقعات أن هذه الأصول ستُمسّ وستتبدّل أو تضعف قوّتها ومكانتها.
في اعتقادي أن أكثر ما تعاني منه الآن قضية فلسطين أمران، هما أكبر وأشدّ من الاعتداءات الحالية على الأقصى: أوّلهما: فلسطنة قضيتهم: فقد تحقق ذلك – أو كاد – وتراجعت مرتبة قضية الاحتلال الغاشم لأرض فلسطين في أخبار الفضائيات، ونساها أو تجاهلها عموم الإعلام، واشتغلت (ماكينات) متنوّعة على صرْف الشعوب العربية والإسلامية عن قضيتهم (الأم) ليعتبروها شأناً فلسطينياً لا يخصّهم منه سوى بضعة بيانات استنكار وعدد من حملات التبرعات والمساعدات. ولسان حال الناس يقول: «خلوا الفلسطينيين يحلّوا قضيتهم بأنفسهم فذاك شأنهم». وزاد من هذا الضياع والفقدان انشغال العرب والمسلمين بقضايا وانقسامات وجروح نازفة أخرى، هنا وهناك، أسهمت بصورة أو أخرى في سلْب البعد الإسلامي الواسع من قضية فلسطين وتجفيف جذوته الإسلامية المتّقدة، وتحوّلت من أم القضايا إلى واحدة ضمن قضايا عدّة يئن من وطأتها الجسد الإسلامي المثقل بأمراضه. بل أصبحت أهم مسألة بالنسبة لمسجدها الأقصى الأسير هو فتحه للصلاة والتمكين لزيارته وفقط. بينما ذهب أدراج الرياح واجب تحريره وتطهيره هو وبقية الأرض الفلسطينية من المحتلين الصهاينة.
على أن الأصل الثاني الذي تغيّر بشأن قضيتنا الأم هو ما يمكن أن نطلق عليه: التثبيط عن المقاومة: إذ إنه بالرغم من وجود احتلال غاشم وقاتل وفاجر؛ تراجع الجميع منذ زمن عن مناهضته واستعظموا فكرة مقاومته وجرى نسيان هذا الأصل الشرعي والإنساني و(المنطقي) في مجابهة الغاصبين ومواجهة المحتلّين في ساحات النضال والجهاد. ولم يبق للكلام فيه أي نصيب. وتعدّى الأمر حالة غياب المقاومة وتلاشي الكلام عنها وانتهاء الدعوة إليها إلى حالة التثبيط عن مقاومة الصهاينة وشيطنتها ومنعها والدعوة للاستكانة والعيش معهم، حتى أن البعض صار يبخل عن وصف القتلى الفلسطينيين بالشهداء كما السابق.

سانحة:

تذكروا دائماً هذا الحديث الشريف، قال رسول صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرّهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك»، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: «ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس».