محمد بن سيف الرحبي
www.facebook.com/msrahby
alrahby@gmail.com
عشت لذّات عدة خلال إجازة العيد، أهمها لذّة القراءة إذ أنهيت قراءة رواية الكاتب السلوفاكي لادسلاف مناتشكو "ما لذّة السلطة؟" وفيها من الأجواء النفسية ما يشفع للمضيّ بها، ومعها، من أول ورقة إلى آخرها خلال يومين، حيث التفاصيل التي تحيط بالمتوفى، الزعيم، الذي كان ثوريا يقود المحاربين للدفاع عن وطنه، لكن على الكرسي الكبير تحول إلى ثوري له شهرته أيضا.. إنما مع النساء وكؤوس الخمر.
كيف تحوّل الثوري إلى "ثور"؟! تلك الحكاية التي يقولها بطل الرواية، المصور الذي مهمته أن يرصد بآلة التصوير المعلقة في عنقه حفل تشييع جثمان الراحل، ويشير إليه دائما بالمتوفى، حيث مرور الناس على جثمانه المسجى للوداعية، ومع أن مهمته كتابة الحدث بالصورة، لكنه عبر الرواية يرصد المشهد بالكلمات، الوجوه العابرة، قليل منها يبكي، وبينها من يمثّل الحزن، أو يأتي للمشاركة ليكون حاضرا في مشهد رسمي مهيب، وهناك من جيء بهم من المعامل والمصانع والمدارس، لا يعرفونه جيدا، ولا يتذكرون من كانه هذا الرجل، المقاتل القديم الذي أصبح عالة على الوطن.. هناك أيضا زوجته السابقة التي كانت رفيقته أيام النضال في جبهات المقاومة، ومرت أرملته الشقراء تتبعها سمعتها، وهناك طابور من الحكايات التي جعلت من المتوفى يصل إلى أعلى هرم في السلطة، وبقي صديقه مصورا محتفظا بحقه في مبادئ آمن بها، فأبقته فقيراً على هامش الحياة، ليس بين يديه سوى صور كثيرة لشخص لن يتذكره بعد سنوات أحد، ولن تحتاج صحيفته إلى صوره لتنشرها، هناك زعيم آخر لا يريد لأي صورة لسابقه أن تزاحم حضوره.
لغة سهلة، وحبكة سلسة، تمضي بقارئها إلى ما هو أهم، أن ينعى الاشتراكي ما يذهب إليه الثوار القدامى، أصحاب المبادئ، الذين يقتحمون حدود الموت من أجل ما يؤمنون به لوطن يريدونه حراً كريماً، فيسقطون حالما يجلسون على الكرسي، وتلتئم حولهم المصالح، والسؤال الدائر في الرواية: متى بدأ التغيّر على وجه التحديد؟ متى كانت ساعة التحوّل ليحلل ما جرى ولماذا تنازل الثوري المقاتل عن مبادئه ليبدو خائفاً على منصبه أكثر من أي شيء آخر، من خصمه جالوفيتش وقد كانا رفقاء نضال؟
كانت الرواية حكاية كل نظام وليست حكراً على ما حدث في بلاد ما، ربما يعني الروائي بلاده سلوفاكيا، والتي كانت بمسمى تشيكوسلوفاكيا، ضمن منظومة الاتحاد السوفييتي سابقا، هناك تربّت ديكتاتوريات على وقع النضال من أجل الفقراء وحراستهم من القيم الرأسمالية بمعناها الكارثي على حق البسطاء في العيش، هي ذاتها تتكرر في أمكنة لا تحصى من العالم لتعكس علامة استفهام كبرى: لماذا يحدث ما يحدث؟ ما تلك اللذة التي تدير رأس الجالس على أعلى كرسي، عرش حكم أو حتى جمعية أهلية، فيتحول من إنسان عادي إلى آخر لديه قدرة على الفتك بمناوئيه إن استطاع إلى رقابهم سبيلا.
عاش الكاتب مراحل حياته في حروب متواصلة قبل أن يشهد تفكك الاتحاد السوفييتي ثم بلاده إلى دولتين، ولد مع اندلاع الحرب العالمية الأولى وقاوم عبر الحزب خلال الحرب العالمية الثانية، وكان من أبرز الصحفيين المحسوبين على الحزب الشيوعي، لكنه توقف عمّا اعتبر أنه "مداهنة" منه لينقلب عليه، فهاجر إلى النمسا، لكنه عاد إلى بلاده ليدفن في براغ عام 1994، له أيضا رواية الليلة السابعة والموت يدعى إنجلخن، وهي أكثر جرأة في نقد المرحلة الاشتراكية.