قراءة أخرى للحدث التركى

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٠٢/أغسطس/٢٠١٦ ٠٠:٢٣ ص
قراءة أخرى للحدث التركى

فهمى هويدى

(١)
حين أشاع بعض الإعلاميين أن «أمينة» أصبحت الوحيدة التى لم يتم اعتقالها فى تركيا، فقد كان ذلك من أصداء الأرقام الكبيرة التى باتت تذاع كل يوم عن أعداد الموقوفين والمعتقلين بعد المحاولة الانقلابية التى جرت يوم ١٥ يوليو الفائت. وكان اختيار اسم السيدة التى أفلتت من الاعتقال له دلالته. ذلك أن أمينة هى زوجة الرئيس رجب طيب أردوغان.
الصورة التى ترسمها الأرقام تبرر الشائعة التى أطلقت موحية بأن الشعب التركى أصبح رهن الاعتقال، وهو ما عبرت عنه صراحة بعض التعليقات التى تناولتها مواقع التواصل الاجتماعى. وحين حاولت تحرى الأمر من الدوائر المعنية فى أنقرة تلقيت الإيضاحات التالية: إن حملة تطهير مؤسسات الدولة من عناصر المحاولة الانقلابية لم تنته. والتوسع فى الاشتباه فى أجواء المفاجأة الصادمة مفهوم. وطبقا لما أعلنه الرئيس أردوغان يوم السبت ٣١/٧ ونقلته جريدة الأهرام يوم الأحد، فإن عدد الموقوفين خلال الأسبوعين الفائتين وصل إلى ١٨ ألف و٦١٩ شخصا، وهؤلاء مثارة حولهم شبهات ضعيفة ولكنهم محددو الإقامة فى أقسام الشرطة احتياطيا. أما المعتقلون الذين نسبت إليهم اتهامات قوية وأودعوا السجون فعددهم عشرة آلاف و١٣٧ شخصا والتحقيقات الجارية ستحدد مصير الجميع. وإن بعض الأرقام التى أعلنت أعطت انطباعات مغلوطة، فالقول بأنه تم إغلاق ٤٥ صحيفة صحيح وغير دقيق. فالصحيح أن القرارات صدرت بالفعل، لكنها لم تذكر أن فى تركيا ١٨٦٠ صحيفة قومية ومحلية. وأغلب الصحف التى تم تعطيلها كانت إقليمية ومحلية بمعنى أنها لم تكن توزع على مستوى الجمهورية، والصحف الكبيرة التى جرى تعطيلها عددها سبع فقط. ولم تغلق لأنها معارضة، ولكن لأنها كانت ذات صلة بجماعة فتح الله كولن التى استثمرت الكثير فى المجال الإعلامى. وفى رأى السلطات المختصة أن تلك الصحف كانت وراء عدة تسريبات مغلوطة مهدت لمحاولة الانقلاب. والحاصل فى قطاع الصحافة له نظيره فى مجال النشر والبث التليفزيونى. كما إن توسيع نطاق التحقيقات صار من تقاليد المراحل التى تعقب المحاولات الانقلابية،
(٢)
هذه الملاحظة الأولى تعنى أن إجراءات مرحلة التطهير لها ملابساتها الخاصة والاستثنائية وهذه لا تصلح معيارا للحكم على أوضاع ما بعد محاولة الانقلاب. وغاية ما يمكن أن توصف به أنها تصنف ضمن جهود التثبت من إفشال المحاولة وإزالة آثارها. وقد عبرت عن ذلك المعنى فى مقام سابق، فى الأسبوع الفائت، فيما نشر تحت عنوان اختزال الفكرة فى كلمات ثلاث هى: راقبوا ولا تحاكموا.
وإذ نفهم مشاعر الذين سارعوا إلى الترحيب بفشل الانقلاب، وكنت واحدا منهم، إلا أننى أزعم أن الذين باركوا كل الإجراءات اللاحقة على ذلك أوقعهم تسرعهم فى الخطأ. ذلك أن الملف لايزال مفتوحا ولم يتأكد بعد ما إذا كان الذى جرى سيمهد الطريق أمام الانقلاب على الديمقراطية أم لا. لذلك قلت إن الترحيب بفشل الانقلاب واجب لأنه كان يستهدف استعادة حكم العسكر بظلاله الكئيبة وتاريخه الأسود، لكن الحذر من تداعيات فشل المحاولة أوجب كى لا تتخذ المحاولة ذريعة لتبرير التراجع عن الديمقراطية. بالمثل فإن الذين سارعوا إلى تأييد الانقلاب ارتكبوا خطأ مضاعفا، من ناحية لأنهم راهنوا على حكم العسكر ومن ثم قبلوا بإجهاض المسيرة الديمقراطية والانتقال بتركيا من وضع تخفظوا عليه واعتبروه سيئا، إلى وضع آخر أسوأ وأتعس. ومن ناحية ثانية لأنهم قدموا حساباتهم وثأراتهم أيا كان مصدرها على مستقبل الوطن ومصير نهضته.
تتفرع عما سبق ثلاث ملاحظات فرعية هى: إن إجراءات السلطة فى أنقرة أيدتها الأحزاب العلمانية التركية، وفى المقدمة منها حزب الشعب الجمهورى والحزب القومى وحزب الشعوب الديمقراطى. وظلت فى تأييدها ملتزمة بموقف الترحيب الحذر الذى يوافق على إجراءات التطهير لكنه يتمسك بالحفاظ على المسار الديمقراطى.وإن الإجراءات التى اتخذت اتسمت بالشفافية النسبية. الأمر الذى أتاح لنا أن نعرف أعداد المحتجزين والمعتقلين أو المجمدين والمفصولين من كل فئة وقطاع، كما أتاح لنا أن نتابع التطور الذى طرأ على تلك الأعداد. وهى ملاحظة تثير انتباهنا فى العالم العربى، حيث تتخذ الإجراءات ذاتها وأكثر منها، لكنها تظل «أسرارا» محاطة بالكتمان ومتروكة للتخمين والتقديرات التى قد تصيب أو تخطئ.وإن التعامل الإعلامى مع الحدث خارجيا وعربيا بوجه أخص اتسم بصفتين إحداهما الشخصنة والثانية الشيطنة. فالسهام كلها استهدفت شخص الرئيس أردوغان، ومن ثم نسبت الشرور كلها إليه. وهذه الحملة لم تبدأ مع محاولة الانقلاب، لأنها استمرت طوال العامين الأخيرين على الأقل. وهو ما يذكرنا بأبلسة الرئيس صدام حسين قبل غزو العراق وقبله بدرجة ما الرئيس جمال عبدالناصر.
(٣)
الملاحظة الأخرى المهمة أننى وقعت على كتابات عمدت إلى التقليل من دور المجتمع التركى فى إفشال المحاولة الانقلابية، وأخرى لجأت إلى تشويه ذلك الدور أو التبسيط الساذج له. وقيل فى هذا الصدد إن الذين أيدوا أردوغان هم «ميليشيات» حزب العدالة والتنمية. وقرأت لمن قال إن الصراع فى تركيا هو إسلامى إسلامى بعد أن كان إسلاميا علمانيا. إلى غير ذلك من التحليلات التى تنم عن فقر فى المعرفة والخيال، وعن قراءة تنطلق من الكيد والخصومة السياسية، ولا علاقة لها بمعطيات الواقع. وإذ أزعم أن أغلب تلك التعليقات يتعذر أخذها على محمل الجد، إلا أن أكثر ما همنى فيها ملاحظة أن كثيرين فى العالم العربى أصابهم الإحباط بحيث أصبحوا عاجزين عن تصور قيام مجتمع للدفاع عن نظامه. إذ المعتاد أن تتولى المؤسسات العسكرية تلك المهمة، وإذا كنا قد عرفنا حشودا شعبية خرجت لإسقاط نظام ورأينا ذلك فى حراك الربيع العربى، إلا أننا لم نشهد خروجا لتلك الحشود دفاعا عن نظامها. لكن ذلك حدث بجدارة فى المشهد التركى. إذ إلى جانب الدور الذى قامت به عناصر القوات المسلحة والقوات الخاصة والشرطة، فإن حركة المجتمع كان لها دورها الفاعل فى التصدى للانقلاب رغم اتساع نطاقه واستناده إلى عناصر للقوة لا ينبغى التقليل من شأنها (الطيران مثلا).
إنه كان مفهوما موقف الطبقة السياسية التى تعرف ماذا يعنى حكم العسكر وما هو مصير الديمقراطية إذا ما قدر للانقلاب أن ينجح، لكن الجماهير العادية التى تضاعفت دخولها ثلاث مرات خلال السنوات العشر الأخيرة حركها إدراكها أنها تدافع عن نفسها ومستقبلها وأن لها مصلحة حقيقية فى استمرار النظام والدفاع عنه. وذلك ما يفسر خروجها إلى الشوارع طوال الليل حين ذاع خبر الانقلاب.
(٤)
لقد بدا واضحا مما تكشف حتى الآن أن الإعداد لمحاولة الانقلاب كان دقيقا ومحكما، وأن عناصره انتشرت فى أوسع رقعة ممكنة من مفاصل الدولة ومؤسساتها العسكرية والمدنية، الأمر الذى استغرق وقتا طويلا وجهدا فائقا، وهو ما يلفت الانتباه من زاويتين هما: إن العملية أكبر بكثير من جماعة «خدمة» التى يقودها الداعية فتح الله كولن المقيم بالولايات المتحدة الأمريكية. وإذا كان المرجح أن تكون الجماعة ضالعة فيها، كما أن المؤكد أن عناصرها لها انتشارها فى مفاصل الدولة المدنية والعسكرية، إلا أن العملية تظل أكبر منها، حيث يفهم اشتراكها أو استخدامها فى المحاولة، لكن يستبعد عقلا أن تكون وحدها المحرك الرئيسى لها كما يشير الخطاب السياسى التركى.وإن ترتيب عملية بذلك الحجم الكبير لابد أنه استغرق وقتا طويلا نسبيا، حين لا تكتشف إلا عندما بدأ التنفيذ ونزلت الدبابات إلى الشوارع بالفعل، فإن ذلك يعنى أن ثمة قصورا استخباريا عجز عن تتبع خيوطها فى الوقت المناسب.
الملاحظة الأخيرة أن المعلومات التى توافرت حتى الآن ركزت على أطراف المحاولة فى الداخل، لكنها لم تتطرق إلى دور للخارج فى العملية، التى لا يتصور عقلا أن تتم فى بلد كبير ومهم مثل تركيا دون أن ترتب قدرا من التفاهم مع الخارج على الأقل لتأمين مصالحه. إن ثمة تهليلا تابعناه فى إسرائيل لصالح الانقلاب، وترحيبا به فى البداية من جانب واشنطن، ولاحظنا صدور إشارات لاحقة من جانب بعض المسئولين الأتراك عن تشجيع أمريكى للانقلابيين، إلا أن ثمة علامات استفهام حول موقف بعض الأطراف العربية مما جرى، وهو ما أثاره تقرير بثه من لندن فى ٢٩/٧ موقع «ميدل إيست آى» (عين الشرق الأوسط). إذ تحدث عن دور عربى له صلة بالمحاولة، وأشار إلى تحويل أموال خليجية إلى فتح الله كولن المقيم فى بنسلفانيا عبر رجل أعمال فلسطينى مقيم فى الولايات المتحدة. إلا أن تلك مجرد معلومات لا سبيل للتثبت من صحتها، ومع ذلك فإن الفصل المتعلق بدور الخارج يمكن أن يتضح خلال الأسابيع المقبلة، الأمر الذى قد يفاجئنا بما لم يكن فى الحسبان. وما علينا فى هذا الصدد إلا أن ننتظر لكى نرى ما تسفر عنه التحقيقات وترشدنا إليه التسريبات.

كاتب مصري