موسى الفرعي.. إعلامي ومحاضر زائر بجامعة كامبردج
مرايا
في فضاء يتسارع فيه الإيقاع وتتهاوى فيه الحدود بين الذات والآخر، تطل الهوية الوطنية كقيمة وجودية لا تكتفي بوصف الانتماء، بل تتجاوز ذلك لتعبّر عن حضور الإنسان، بوصفه كائنا يعيد تعريف علاقته بالعالم وفق رؤيته ومفاهيمه الخاصة عن الإنسان والحياة، ومن وعيه الدائم التجدد.
الشباب في هذا السياق، لا يرثون الهوية كما تورث الأسماء، بل يخوضونها كجهاد يومي من أجل الإمساك بمعنى في عالم مفتوح على كل شيء، هم لا يرفضون جذورهم ولكنهم لا يقبلون أن تختزل هذه الجذور في قوالب جاهزة أو شعارات جافة، يسألون عن الجوهر ويجربون صور التعبير عنه، ويصيغونه في لغة تليق بعصرهم، دون أن يفرطوا في روح التاريخ الكامن في وجدانهم، ودون الانسياق أو الاندفاع غير العاقل وراء تسارع العالم والذوبان في هويات أخرى، هذا ما تؤكده التجربة.
ففي كل حضور للشباب العماني، تتجلى مستويات وعيهم العالي، وتتضح صور انتمائهم لوطنهم وولائهم لقيادتهم، انتماء وولاء عاقل وليس مجرد استجابة غريزية أو تبعية عاطفية مرهونة بأي أمر مادي، لذلك نراهم غير قابلين للذوبان في هذا الانفتاح العالمي بما يحمله من تدفق ثقافي هائل، بل يدفعهم إلى التفكير في معنى الهوية، وفي حاجتها إلى أن تكون مرنة، قابلة للحوار لا الانغلاق.
وما يبدو تناقضا بين الإخلاص للتاريخ والانفتاح على الجديد، هو في حقيقته فعل توازن داخلي، يبعدهم عن الإقامة الدائمة في فعل الماضي ويحفظهم من الانزلاق في هاويةٍ تداخلت فيها كل الأشياء والوظائف إلى الحد الذي ذابت فيها كافة الخطوط الدقيقة الفاصلة، وهو الأمر الذي بات جليا ونحن نعبر مواقع التواصل الاجتماعي ونقرأ أفكارهم ورؤاهم، ورؤيتهم للأشياء بعين التمييز والوعي، مما يجعلنا على يقين تام أن الهوية في وعي الشباب العماني لم تعد مسألة حديث عن رسم على الخريطة، بل تجربة شعورية تولد من الإحساس بالمسئولية تجاه الجميع، ومن الانخراط الصادق في بناء المعنى وخدمة الناس، واحترام الفارق، وفي قلب هذا الانتماء وعي بأن عُمان ليست كيانا خارجيا بل امتداد للذات، وأن الدفاع عن هويته ليس صراعا مع الآخر، ولكنه حوار قائم على أرض ثابتة من المبادئ والقيم، إنهم يعيشون عمان كحلم حي وفضاء إنساني جامع تتعدد فيه القيم، ويتسع فيه المعنى.
