تجاوز النمو البطيء

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢٥/أبريل/٢٠١٦ ٠٩:٥٠ ص
تجاوز النمو البطيء

كمال درويش

يُبدي أغلب خبراء الاقتصاد في أيامنا هذه التشاؤم بشأن آفاق النمو الاقتصادي العالمي. فمرة أخرى خفض البنك الدولي توقعاته للأمد المتوسط، ويحذر الاقتصاديون في مختلف أنحاء العالم من أننا نواجه "المعتاد الجديد" الذي يتسم بتباطؤ النمو. ولكن الإجماع يصبح أقل ــ أو هكذا تبدو الحال ــ عندما يتعلق الأمر بتفسير هذا الضعف.
قبل ثلاث سنوات تقريبا، أحيا وزير الخزانة الأميركي السابق لاري سامرز فرضية "الركود المزمن" للخبير الاقتصادي ألفين هانسن، والتي أكَّد فيها على القيود المحيطة بجانب الطلب. وعلى النقيض من هذا، في كتاب روبرت جوردون الشيق الواسع المعرفة "صعود وسقوط النمو الأميركي"، يتحول التركيز إلى عوامل جانب العرض الطويلة الأمد ــ وخاصة طبيعة الإبداع. وفي كتابه الأكثر مبيعا "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، يَصِف توماس بيكيتي اتساع فجوة التفاوت بين الناس نتيجة لانخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي، ويلقي جوزيف ستيجليتز في كتابه "إعادة كتابة الاقتصاد الأمريكي: أجندة للنمو والازدهار المشترك" باللائمة على الاختيارات السياسية لكل من النمو المتباطئ واتساع فجوة التفاوت.
تتباين هذه التفسيرات في درجة التأكيد، ولكنها ليست متناقضة. بل على العكس من ذلك، في حين يتناول كل من سامرز، وجوردون، وبيكيتي، وستيجليتز القضية من منظور مختلف، تكمل أفكارهم بعضها بعضا ــ بل وتعزز كل منها الأخريات.
تتلخص حجة سامرز الكينزية (التي تقوم على نظريات جون ماينارد كينز) في إرجاع المشكلة إلى نقص الطلب الكلي المزمن: إذ يتخلف الاستثمار المرغوب وراء الادخار المرغوب، حتى عند مستوى أسعار الفائدة الاسمية التي تقترب من الصِفر، وهو ما يؤدي إلى الوقوع في فخ السيولة المزمن. والواقع أن أسعار الفائدة القصيرة الأجل التي تقترب من الصِفر ــ أو حتى السلبية بعض الشيء ــ لا تعني اليوم أن أسعار الفائدة الأطول أجلا، والتي هي أكثر أهمية بالنسبة لتمويل الاستثمار، بلغت مستوى الصِفر هي أيضا. ولكن منحنى العائد في الاقتصادات المتقدمة الكبرى ثابت على نحو لا يتغير، في حين انخفضت أسعار الفائدة الحقيقية والاسمية الأطول أجلا إلى مستويات غير مسبوقة تاريخيا.
وقد تكون الأسباب كثيرة وراء ذلك، ولكن جوردون يصف احتمالا واحدا: فقد تباطأت الوتيرة الكامنة للإبداع، الأمر الذي أدى إلى انخفاض العائدات المتوقعة على الاستثمار وبالتالي دفع أسعار الفائدة إلى الانخفاض. والاستثمار اللازم لترجمة المعرفة الجديدة إلى إبداع حقيقي هو الذي يربط بين جانبي العرض والطلب ويولد النمو.
ومن الممكن ربط هاتين النظريتين بالحجج التي يسوقها بيكيتي حول ديناميكيات تراكم رأس المال. وتشير فرضية بيكيتي إلى إمكانية الاستعاضة عن رأس المال بالعمل بسهولة نسبيا. فمع نمو رأس المال بسرعة أكبر من نمو العمل والناتج المحلي الإجمالي، ينخفض معدل العائد بمرور الوقت، ولكن بسرعة أقل نسبيا من نمو حجم رأس المال. والنتيجة هي إعادة توزيع الدخل من العمل إلى أولئك الذين يملكون رأس المال.
وقد اقترح سامرز في واقع الأمر شكلا جديدا من أشكال دالة الإنتاج، والتي بموجبها يتسبب التقدم في مجال الآلات الذكية في جعل رأس المال بديلا مثاليا لقطاعات من قوة العمل. ثم يؤدي التركز المتزايد للدخل عند القمة، مقترنا بميل المنتمين إلى أعلى فئات الدخل إلى الادخار، إلى نقص الطلب الكلي المزمن الذي يتسم به الركود المزمن. ويسوق ستيجليتز الحجج التي تثبيت أن السياسة تساهم أيضا في تركز الدخل.
وتدور فرضية جوردون حول نوع من "التخمة" في التقدم التكنولوجي السريع، والتي تسببت في تقليص العائدات المتوقعة وهو ما يساعد بالتالي في تفسير النقص المزمن في الاستثمار الكافي. ولكن في نهاية كتابه، يجعل جوردون من الدخل المتوسط المؤشر الحقيقي للأداء الاقتصادي.
وتقودنا القوى المتشابكة المتمثلة في عدم التوازن الكينزي المزمن، وتباطؤ نمو الإنتاجية، وتركز الدخل عند القمة إلى توقعات منخفضة للغاية لنمو الدخل المتوسط. وفي ظل تقوض التوقعات بشأن المستقبل بفِعل هذه القوى العميقة الجذور والمتعددة الأوجه، فربما لا يكون من المستغرب أن يعبر الناخبون في الولايات المتحدة وأوروبا وأماكن أخرى من العالم عن غضبهم تجاه المؤسسة الحاكمة.
*وزير الشؤون الاقتصادية في تركيا سابقا، والمدير السابق لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.