الاقتصاد عندما يترنح الاستقرار السياسي

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٠/أبريل/٢٠١٦ ٠١:٤٦ ص

على مدار السنوات الخمس والثلاثين الفائتة، شهدت الديمقراطيات الغربية صعوداً سريعاً في وتيرة عدم الاستقرار السياسي، والذي اتسم بتحولات متكررة في الأحزاب الحاكمة وبرامجها وفلسفاتها، مدفوعة جزئياً على الأقل بالتحول الاقتصادي والمصاعب الاقتصادية. والسؤال الآن هو كيف يمكن تحسين الأداء الاقتصادي في وقت يغلب عليه عدم الاستقرار السياسي الذي يعوق عملية صُنع السياسات الفعّالة.

في مقال نُشِر مؤخرا، يبين أحدنا (ديفيد برادي) علاقة الارتباط بين ارتفاع وتيرة عدم الاستقرار السياسي وتراجع الأداء الاقتصادي، مشيراً إلى أن الدول حيث الأداء الاقتصادي أقل من المتوسط شهدت القدر الأعظم من التقلبات الانتخابية. وبشكل أكثر تحديدا، يتفق عدم الاستقرار هذا مع انحدار حصة تشغيل العمالة في التصنيع أو الصناعات التحويلية في البلدان المتقدمة. ورغم أن درجة الانحدار تتفاوت بعض الشيء من بلد إلى آخر -فإنها كانت أقل حِدة في ألمانيا مقارنة بالولايات المتحدة على سبيل المثال- والنمط منتشر إلى حد كبير.

على مدار السنوات الخمس عشرة الفائتة بشكل خاص عملت التكنولوجيات الرقمية المتزايدة القوة على تمكين التشغيل الآلي وإدارة الوظائف «الروتينية» الإدارية والعمالية. وفي ظل التقدم في مجال الروبوت، والمواد، والطباعة الثلاثية الأبعاد، والذكاء الاصطناعي، بات بوسع المرء أن يتوقع إلى حد معقول استمرار توسع نطاق الوظائف «الروتينية» التي يمكن تشغيلها آليا.
وقد عزز صعود التكنولوجيات الرقمية أيضاً قدرة الشركات على إدارة سلاسل الإمداد العالمية المعقدة المتعددة المصادر بكفاءة، وبالتالي تمكنت من اغتنام فرصة التكامل الاقتصادي العالمي. وبعد أن أصبحت الخدمات قابلة للتداول على نحو متزايد، انحدر التصنيع باضطراد كنسبة من تشغيل العمالة، من 40 % عام 1960 إلى نحو 20% اليوم. ولكن في أغلب البلدان المتقدمة، لم يعمل القطاع القابل للتداول على توليد قدر كبير من فرص العمل، على الأقل ليس القدر الكافي للتعويض عن الانحدارات في التصنيع. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، كان صافي توليد الوظائف في الثلث المنتج للسلع والخدمات القابلة للتداول في الاقتصاد أقرب إلى الصِفر على مدى العقدين الفائتين.
وبدافع من هذه الاتجاهات جزئيا، بدأت الحصة من الدخل الوطني التي تذهب إلى العمل والتي ارتفعت في أوائل فترة ما بعد الحرب تنخفض في سبعينيات القرن العشرين. وفي حين أنتجت العولمة والتكنولوجيات الرقمية فوائد واسعة النطاق، في هيئة تكاليف أقل للسلع ومجموعة واسعة من الخدمات، فقد غذت أيضاً استقطاب فرص العمل والدخل، مع انخفاض حصة وظائف الدخل المتوسط وحصة متزايدة من وظائف الدخل المتدني والدخل الأعلى التي تقسم عملية توزيع الدخل. ويتفاوت حجم هذا الاستقطاب من بلد إلى آخر، وذلك نظراً لاختلاف أنظمة الضمان الاجتماعي والاستجابات السياسية.
حتى العام 2008، عندما قَضَّت الأزمة الاقتصادية مضاجع قسم كبير من العالم، كانت المخاوف المرتبطة باتساع فجوة التفاوت محتجبة خلف قدر أعلى من الاستدانة، مع مساعدة الإنفاق الحكومي وتأثيرات الثروة الناجمة عن ارتفاع أسعار الأصول في دعم استهلاك الأسر والنمو وفرص العمل. وعندما انهار نمط النمو هذا، تدهورت الظروف الاقتصادية والسياسية بسرعة. والأمر الأكثر وضوحاً هو أن تراجع النمو وفرص العمل تسبب في تضخيم التأثيرات السلبية الناجمة عن استقطاب الوظائف والدخل. وبعيداً عن المشاكل العملية الواضحة التي أثارها، اصطدم هذا بحس الهوية لدى العديد من المواطنين.
في العصر الصناعي بعد الحرب، كان بوسع المرء أن يتوقع إلى حد معقول كسب العيش الكريم، وإعالة أسرته، والمساهمة بطريقة مرئية في الازدهار الكلي للبلاد. ومع التحول إلى قطاع الخدمات غير القابل للتداول، حيث ينخفض الدخل ويتضاءل الأمان الوظيفي، فَقَد كثيرون ثقتهم بأنفسهم، وتعزز شعورهم بالسخط والاستياء إزاء النظام الذي جلب هذا التحول. (ولم يكن من المفيد أن نفس النظام هو الذي أنقذ المحرك الرئيسي للأزمة الاقتصادية، أو القطاع المالي - وهو التحرك الذي كشف عن تفاوت صارخ بين الضرورة والإنصاف).
ورغم أن التحول الاقتصادي الذي تدفعه التكنولوجيا ليس بالأمر الجديد، فإنه لم يحدث قط بنفس السرعة أو على نفس النطاق الضخم كما كانت حاله على مدار السنوات الخمس والثلاثين الفائتة، عندما تسارع بقوة بفِعل العولمة. ومع تحول الخبرات والحظوظ بسرعة، بات العديد من المواطنين يعتقدون الآن أن قوى عاتية تعمل خارج نطاق سيطرة هياكل الحكومة القائمة، بمعزل عن التدخل السياسي. وهم محقون في هذا إلى حد ما.
والنتيجة هي خسارة واسعة النطاق للثقة في دوافع الحكومة، وقدراتها، وصلاحياتها. ولا يبدو أن هذه المشاعر خفتت بشكل كبير بفِعل الاعتراف بمدى تعقيد التحدي المتمثل في صيانة الحوافز والدينامية وفي الوقت نفسه معالجة اتساع فجوة التفاوت (والتي في أوج شدتها تقوض مبدأ المساواة في الفرص والحراك بين الأجيال).
وكما يشير برادي، كانت أنماط النمو حميدة إلى حد كبير من المنظور التوزيعي خلال الفترة الأكثر استقراراً التي تلت الحرب العالمية الثانية مباشرة، وكانت الأحزاب السياسية منظمة إلى حد كبير حول مصالح العمل ورأس المال، مع تراكب من المصالح المشتركة التي خلقتها الحرب الباردة. وبعد أن أصبحت النتائج غير متكافئة على نحو متزايد، تفتتت المصالح عبر الطيف الانتخابي، الأمر الذي أدى إلى عدم استقرار النتائج الانتخابية، والشلل السياسي، والتغيرات المتكررة في أطر السياسات وتوجهها.
ولم يخل الأمر من عواقب اقتصادية عديدة. وإحداها عدم اليقين بفِعل السياسات، والذي يرقى وفقاً لأغلب الحسابات إلى عقبة كبرى تحول دون الاستثمار. وتتلخص عاقبة أخرى في الافتقار الواضح إلى الإجماع على أجندة تهدف إلى استعادة النمو، وخفض معدلات البطالة، وإعادة تأسيس نمط من الشمولية، والحفاظ على فوائد الترابط العالمي.
على أحد المستويات، من الصعب أن لا نرى في هذا دورة مدمرة ذاتية التعزز. إذ يعمل عدم الاستقرار السياسي على تقليص احتمالات تحديد وتنفيذ أجندة شاملة ومتماسكة ومستدامة إلى حد معقول للسياسة الاقتصادية. ويعمل انخفاض النمو المتواصل الناجم عن هذا، وارتفاع معدلات البطالة، واتساع فجوة التفاوت، على تغذية عدم الاستقرار والتفتت السياسي، والذي بدوره يقوض قدرة المسؤولين على تنفيذ السياسات الاقتصادية الفعّالة.
ولكن على مستوى آخر، ربما تكون هذه الاتجاهات صحية في واقع الأمر، لأنها تجلب المخاوف بشأن العولمة، والتحول البنيوي، والحوكمة -والتي كان التعبير عنها حتى الآن في الشوارع بشكل أساسي- إلى العملية السياسية. ويُعَد هذا النوع من الاتصال المباشر بين هموم ومخاوف المواطنين والحكم مصدراً أساسياً من مصادر قوة الديمقراطية في نهاية المطاف.
عندما تَعْلَق دولة نامية في حالة من التوازن العديم النمو، يصبح بناء الإجماع حول رؤية تقدمية للنمو الشامل دوماً خطوة أولى بالغة الأهمية نحو تحقيق الأداء الاقتصادي الأفضل والسياسات التي تدعمه. وهذا هو ما فعله أكثر القادة فعالية. وهو ذات المبدأ بالنسبة للدول المتقدمة. وأفضل آمالنا هو أن يفهم قادة اليوم هذا المبدأ ويلتزمون به، وبالتالي يوظفون طاقاتهم الخلّاقة في العمل على إنشاء رؤية جديدة تضع بلدانهم على المسار إلى المزيد من الازدهار والعدالة.

مايكل سبنس: حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد

ديفيد برادي: نائب مدير وكبير زملاء معهد هووفر