نصر البوسعيدي
عُمان كانت ولا زالت موطن الحكايات المدهشة التي كانت تلهم الكثير من الأدباء، لأسباب عديدة منها موقعها الاستراتيجي وتميز أهلها في القيادة والتجارة ومختلف العلوم عبر تاريخها التليد الضارب في جذور التاريخ منذ آلاف السنين.
لذلك وجد الأدباء والجغرافيون والنسابة والرحالة القدامى العرب وغيرهم الكثير من المواضيع التي شغلتهم وشغلت كتاباتهم عن عمان منذ عصر الجاهلية، فتارة من يتحدث عن بعدها، وتارة من يتحدث عن كرم أهلها، وتارة من يتحدث عن مجوهراتها، ولؤلؤها، وتارة من يضع سيرة رجالها في قصص ألف ليلة وليلة أو الليالي العربية التي انتشرت بشكل ملحوظ بين العرب وخاصة في عهد الدولة العباسية ويتم تداولها في مجالس الملوك الأدباء والأعيان وتناقلتها كتب التاريخ في مختلف العصور والأزمنة.
لقد كان العرب يتناقلون فيما بينهم وفي حكايات ألف ليلة وليلة سيرة الشاب العماني مع الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي في واقع الحال انهزمت جيوشه أمام الجيش العماني حينما حاول احتلال البلاد في عهد الإمام الوارث بن كعب الخروصي.
ولنعد لقصتنا في ألف ليلة وليلة ولننظر كيف أن عُمان حاضرة في الأدب العربي كمثال، وكيف هي النظرة السائدة لملامح الشاب العماني عند العرب القدامى، وسأسردها لكم هنا (بتصرف لغرض الاختصار) وهي كالتالي:
يحكى أن الخليفة هارون الرشيد كان أرق ذات ليلة أرقا شديدا، فاستدعى جعفر وقال له: يا جعفر قد اعتراني في هذه الليلة أرق فمنع عني النوم ولا أعلم ما يزيله عني؟!
فقال جعفر: يا أمير المؤمنين هل لك أن تنزل بنا في زورق وننحدر به في بحر دجلة مع الماء إلى محل يسمى قرن الصراط لعلنا نسمع أو ننظر ما لم ننظر فإنه قد قبل تفريج الهم بواحد من ثلاثة أمور: أن يرى الإنسان ما لم يكن رآه، أو يسمع ما لم يكن سمعه، أو يطأ أرضا ما لم يكن وطأها، فلعل ذلك يكون سببا في زوال القلق عنك يا أمير المؤمنين، فعند ذلك قام الرشيد من موضعه وصحبه جعفر وأخوه الفضل وأبو اسحق النديم وأبو نواس وأبو دلف ومسرور والصياد، ولبسوا كلهم ملابس التجار وتوجهوا إلى دجلة ونزلوا في زورق مزركش بالذهب وانحدروا مع الماء حتى وصلوا إلى الموضع الذي يريدونه فسمعوا أصوات جارية تغني على العود وتنشد هذه الأبيات:
زرعت بخده وردا طريا فأثمر في السوالف جلنار
وتحسب موضع التخميس فيه رمادا خامدا والخد نار
فلما سمع الخليفة هذا الصوت قال: يا جعفر ما أحسن هذا الصوت
فقال جعفر: ما طرق سمعي أطيب من هذا الغناء، ولكن يا سيدي إن السماع من وراء جدار نصف سماع، فكيف بالسماع من خلف ستر؟!
فقال الخليفة: انهض بنا يا جعفر حتى نتطفل على صاحب هذه الدار لعلنا نرى المغنية عيانا.
فاستأذنوا في الدخول وإذا بشاب عماني مليح المنظر، عذب الكلام، فصيح اللسان، خرج إليهم وقال:
أهلا وسهلا يا سادتي المنعمين عليه، ادخلوا بالرحب والسعة، فدخلوا فرأوا الدار أربعة أوجه وسقفها بالذهب وحيطانها منقوشة باللازورد وفيها إيوان به سدنة جميلة وعليها مئة جارية كأنهن أقمار.
ثم قال الشاب العماني لجعفر: يا سيدي أنا لا أعرف منكم الجليل من الأجل، ليتفضل منكم من هو أعلى في الصدر ويُجلس إخوانه كل واحد في مرتبته، فجلس كل واحد في منزلته.
ثم قال لهم: هل أحضر لكم شيئا من المأكول؟! فقالوا: نعم، فأمر الجواري بإحضار الطعام فأقبلت أربع جوار بين أيديهن مائدة وعليها من غرائب الألوان مما درج وطار وسبح في البحار من قطا وسماني وأفراخ وحمام، فأكلوا على قدر كفايتهم.
فقال الشاب: يا سادتي إن كان لكم حاجة فأخبرونا بها حتى نتشرف بقضائها؟!
فقالوا: نعم إننا ما جئنا منزلك إلا لأجل صوت سمعناه من وراء حائط دارك، فاشتهينا أن نسمعه ونعرف صاحبته فإن رأيت أن تنعم علينا بذلك كان من مكارم أخلاقك.
فقال: مرحبا بكم، ثم التفت إلى جاريته فقال لها: أحضري سيدتك فلانة، فأتت جارية كأنها البدر في تمامه فجلست على الكرسي، وأخرجت منها عودا مرصعا بالجواهر، فشدت أوتاره لرنات المزاهر، ثم ضمت العود لصدرها وانحنت عليه انحناء الوالدة على ولدها وجست أوتاره فاستغاث كما يستغيث الصبي بأمه ثم أنشدت هذه الأبيات:
جاد الزمان بمن أحب فاعتبا يا صاحبي فأدر كؤوسك واشربا
من خمرة ما مازجت قلب امرئ إلا وأصبح بالمسرة مطربا
قام النسيم بحملها في كأسها أرأيت بدر التم يحمل كوكبا
كم ليلة سامرت فيها بدرها من فوق دجلة قد أضاء الغيهبا
فلما فرغت من شعرها بكت بكاء شديدا وصاح كل من في الدار، فقال هارون الرشيد: إن غناء هذه الجارية يدل على أنها عاشقة مفارقة.
فقال الشاب: إنها ثاكلة لأمها وأبيها، فقال الرشيد: ما هذا بكاء من فقد أباه وأمه وإنما هو شجو من فقد محبوبه.
وكان هارون الرشيد مع ذلك كله ينظر إلى صاحب الدار ويتأمل محاسنه وظرف شمائله فرأى في وجهه اصفرارا فالتفت إليه وقال: يا فتى هل تعلم من نحن؟! فقال: لا، فقال له جعفر: هذا أمير المؤمنين وابن عم سيد المرسلين هارون الرشيد.
وبعد ذلك قال الخليفة للعماني: أشتهي أن تخبرني عن هذا الاصفرار الذي في وجهك هل هو مكتسب أو أصلي من حين ولادتك؟!
قال الشاب: اعلم يا أمير المؤمنين أني رجل تاجر من تجار البحر وأصلي من (عُمان)، وكان أبي تاجرا كثير المال، وكان له ثلاثون مركبا تعمل في البحر أُجرتها في كل عام ثلاثون ألف دينار، وكان أبي رجلا كريما، فلما حضرته الوفاة دعاني وأوصاني بما جرت به العادة ثم توفاه الله إلى رحمته، وكنت في يوم من الأيام قاعدا في منزلي إذ دخل علي غلام من غلماني وقال: يا سيدي إن بالباب رجلا يطلب الأذن في الدخول، فأذنت له ودخل ووضع بين يدي فواكه بغير أوان وملحا وطرائف ليست في بلادنا فشكرته على ذلك وأعطيته مئة دينار، ثم سألت التجار من أين هذا؟! فقالوا: إنه من البصرة، فصاروا يصفون حسن البصرة وأجمعوا على أنه ليس في البلاد أحسن من مدينة بغداد ومن أهلها، فاشتاقت نفسي إليها وتعلقت آمالي برؤيتها فقمت وبعت العقار والأملاك وبعت المراكب بمئة ألف دينار واكتريت مركبا وشحنتها بأموالي وسائر متاعي وسافرت بها أياما وليالي حتى جئت البصرة فأقمت بها مدة ثم سرنا منحدرين أياما قلائل حتى وصلنا بغداد فسألت أين تسكن التجار وأي موضع أطيب للسكان، فقالوا: في حارة الكرخ فجئت بها واستأجرت دارا في درب يسمى درب الزعفران.
ثم توجهت في بعض الأيام ومعي شيء من المال إلى موضع يسمى قرن الصراط فرأيت في ذلك المكان موضعا عاليا جميلا مطلا على الشاطئ، فرأيت شيخا جالسا وعليه ثياب جميلة وتفوح منه رائحة طيبة وحوله الجواري والغلمان فقلت لشخص ما اسم هذا الشيخ فقال: هذا طاهر ابن العلاء وهو صاحب الفتيان والجواري وكل من دخل عنده يأكل ويشرب وينظر إلى الملاح.
ثم تقدمت إليه يا أمير المؤمنين وسلمت عليه، وقلت له يا سيدي إن لي عندك حاجة فقال ما حاجتك؟!
قلت: أشتهي أن أكون ضيفك، فوزنت له ثلاثمئة دينار عن شهر من أجل إحدى الجواري فتلقتني بالرحب والسعة ضاحكة مستبشرة وأدخلتني دارا عجيبة مزركشة بالذهب فتأملت في تلك الجارية فرأيتها كالبدر ليلة تمامه وفي خدمتها جاريتان كأنهما كوكبان ثم أجلستني وجلست بجانبي فأتين بمائدة فيها من أنواع اللحوم والحلوى والفواكه وأقمت عندها شهرا على هذا الحال وهي تغني
أيا نفحات المسك من أرض بابل بحق غرامي أن تؤدي رسائلي
عهدت بهاتيك الأراضي منازلَ لأحبائنا أكرم بها من منازل
وفيها التي ما حبها كل عاشق تغني ولم يرتد منها بطائل
المرجع: موسوعة عُمان في التراث العربي في عيون الأدباء ج1، د.هلال الحجري، الطبعة الأولى 2018م، الناشر: وزارة الإعلام سلطنة عُمان، بيت الغشام للصحافة والنشر والإعلان، سلطنة عُمان - مسقط.
- يتبع -