الوعي السياسي المجتمعي ودوره في فهم القرارات السيادية

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١١/أكتوبر/٢٠٢٠ ٢١:٤١ م
الوعي السياسي المجتمعي ودوره في فهم القرارات السيادية

بقلم - مهرة الزبير

قبل عدة سنوات قدمتُ مُحاضرةً لمجموعةٍ من الطلبة بمرحلة الدراسة الجامعية ودارَت حَول السِياسة الخارجية العُمانية، وفي نهاية المُحاضرة شَاركتنا إحدى الطالبات رأيها حول موضوع متعلق بالسلطنة وإبقاء سفيرها المعتمد لدى إحدى الدول فيها وإستمراره في عَمله بها، حيث عبَّرت فيه عن مَوقفها الرافض لإبقاء السفير العُماني في ذلك البلد رُغم الحرب الطاحنة والآلام الكبيرة التي تعصِف به.

فعَلَّقتُ مُؤكِّدةً عَليها بأنَّ الوضع الذي يعيشُهُ ذلك البلد بِلا شكٍّ هو وضعٌ مُؤلِمٌ وقاس، وبدأتُ أوضح لها بعض النقاط التي قد تكون غفلت عنها أو تجهلها حِينها وهي:
أولاً: إن الموقف الذي إتخذته الطالبة كان مبنيا على العَاطِفة والإنفعال تجاه القضية، بينما السِياسَة مبنية على مفهوم الموضوعية وتَشَارك المصَالح وليس على المشاعر والعَواطف.

ثانيا: إن إبقاء سفير السلطنة بتلك الدولة لا يعني بالضرورة بأنَّ السلطنة على توافق مع سياسات تلك الدولة، بل لعدة أسباب أهمها إبقاء باب التواصل مفتوحاً معها. حيث أن إغلاق الباب لا يؤدي إلى تحقيق أية نتائج فاعلة، بل ربما تعقد الأمور أكثر. ويجب على الفرد أن ينظر إلى هذه الأمور نظرة موضوعية وليس وفق مشاعر وتقديرات لا تستند على أساس.

ثالثا: هناك قاعدة مهمة من قواعد السياسة الخارجية العُمانية وهي قاعدة التواصل والتشاور المُنفتِح، وهذه هي السِمَة التي عُرفت بها عُمان على الصعيد الدولي بأنها دولة التفاهم مع الجميع وهي أيضا القَاعدة التي رسّخَت لِعُمان إِمتِيَازَها ومَكانتها الدولية.

وبعد توضيح هذه النقاط الثلاث الرئيسية، أعربت الطالبة عن إستيعابها وإدراكها لفحوى قرار إبقاء السفير العُماني في تلك الدولة وتَفهمها للموقف الذي إتخذته السلطنة. وبذلك يتضح لنا جليًّا أهمية التوعية السياسية ودورها في المُسَاعدة على فَهم وتقدير القرارات التي تَتخذها الدول في شأنٍ ما.

إنَّ الدَوافِع والأسبَاب التي بِموجَبها تُتَّخذ القَرارات السِياسية غالباً هي أعمق من إعتقاداتنا السَائِدة التي ترتبط بشكل وثيق على درجة فهمنا واستيعابنا لهذه القرارات وأسبابها. فقبل الحُكم على قرارات سياسية مُعينة يجب علينا بقدر الإمكان أن نفهم الجهات المختلفة والعوامل المساهمة التي قَادت إلى إتخاذ تلك القرارات، وعلى أقل تقدير أن نحاول أن نفهم بعُمقٍ ذلك الجانبُ الذي يهمنا منها. وهذا الفهم المتعمق يأتي بالتوعية السياسية وهو ما سوف أسلط عليه الضوء في هذا المقال الذي سيركز على أهمية دراسة وتعليم العلوم السياسية كأداة لإستحضار الوعي السياسي.

إن دراسة هذا المجال الهام من العلوم يساهم في بناء وتشكيل فِكر الفرد ونظرته في إستيعاب الأمور السياسية. ومن أهم مكاسب هذا المجال هو حَفزُ الإنفتاح – بمعنى تَقبُّل وُجود آراء مُختلفة وإستيعاب أن العَالم لا يدور أو يتقدم وِفق ما نتمنى أو بالطريقة التي نَعرفها نحن فقط. فهذا الإستيعاب يؤدي إلى إكساب الفرد نظرة شُمولية واسِعة تُمَكِّنُه من تحليل الأمور بشكل أكثر وعياً لأحداثٍ ومجرياتٍ سياسية قد يصاحبها بعض التعقيد، وخاصةً عندما تتعلق القضايا بدول أخرى. كما أن الإنفتاح بمفهومه المشار إليه آنفاً يُفيدُ الفَرد على المستوى الشخصي وذلك في تعامُلاته مع الآخرين في حياته اليومية، وتقبُّلِه لمبدأ أننا مختلفون ولكننا نتحد في مصلحتنا المشتركة، ويمنحه ذلك الفرصة للتعلم عن طرق الحياة المختلفة. ويجب علينا أن نكون مُدركين بأنه مهما كانت آرائنا السياسية مُتنوعة فإن ذلك لا يمنع على الإطلاق من إتخاذ قرارات في مصلحة الدولة وشعبها.

عندما زار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه – في مسقط في سنة ٢٠١٨م، بَرزت في الساحة آراء مختلفة، وسنسلط الضوء هُنا على سبيل النقاش رأيين متضادين:
كانت هناك بعض الفِئات التي أشادت بالزيارة وفئات أخرى في المقابل أبدت إعتراضها عليها. وكانت أسباب إعتراض بعض الفئات للزيارة مَعروفة ومتوقعة حيث كانت مرتبطة بشكل مباشر بالقضية الفلسطينية وإستقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي على أرض السلطنة. أما المجموعات التي أشادت بالزيارة، فكانت لقناعتهم وثقتهم في القرارات الحكيمة لجلالة السلطان الراحل و’إعتقادهم‘ بأن الزيارة كانت لتخدم القضية الفلسطينية الإسرائيلية وللمساهمة في إحلال السلام، نظراً لأن زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي للسلطان قابوس – طيب الله ثراه – قد سبقتها بعدد قليل من الأيام زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس للسلطان الراحل. وإستخدمت هنا كلمة ’إعتقاد‘ نظراً لأن أسباب الزيارة لم تُنشر فلا نعلم الأسباب الحقيقية من ورائِها، ولكننا نَعلم حتماً بأن سِياسة السلطان قابوس – طيب الله ثراه – هي سياسة مبنية على قَواعد ثابتة ومتينة لا تأخذ ولا تنتقص من حق الآخرين ولا تسمح بالآخرين أن يأخذوا من حقنا، وهي سياسة إتزان وعدم إنفعال، تعمل برؤية واسعة وحكيمة تراعي وتعي مصالحنا المختلفة ودوافعها. وربما وجدت أسباب أخرى أجبرت حدوث تلك الزيارة.

إنَّ نهج السلطان قابوس أتى من وعي سياسي رفيع المستوى، ولقد سبق لي أن أشرت في مقال سابق منشور إعلاميا إلى الكيفية التي مكنت جلالته من وصوله إلى هذا النهج. وكما ذكرت أعلاه، فإن السياسة مبنية على مفهوم المصالح، والحكمة هنا تتجلَّى في الطريقة المُختارة لتحقيق وتأمين هذه المصالح. فكما أن الطالبة التي كانت تعتقد بأن إبقاء سفير في دولة تنتهج سياسة مختلفة بمثابة الموافقة عليها أو كنوع من رضاء السلطنة بسياسة تلك الدولة، وقياساً عليه، فيجب علينا أيضا أن نُدرك بأن ’المُصافَحة ‘ لا تَعنِي ’المُوافَقَة .‘

فإن أردنا أن نخلق مجتمعاً واعياً سياسياً قادراً على فهم ومُواجَهة الأحداث الإقليمية والدولية، فيجب أن نخلق بيئة آمِنة تَسمح بإزدهار الحِوار والدراسات في هذا المجال. ويجب أن نبني جسوراً بين القِطاعَات المُختلفة في المجتمع وأن يُرحَّب بمساهمة القطاع الأهلي في هَذا المَجال، وذلك مثلاً بإنشاء مَراكز أبحاث خاصَّة تكون لها صلاحية إنتاج الأعمال كالدراسات وتعمل جنبا إلى جنب مع القطاع العام.

ومن المؤسف أن نرى في كثير من الأحيان عند إجراء المناقشات السياسية في بِلادنا نشعُر بأن الذي نفعله هو أمر غير مقبول وغير مرغوب فيه، بينما في الواقع يجب أن تكون المناقشات والحوارات في الجوانب السياسية شيئا طبيعيا ويجب تشجيعها لكي نبني مجتمعاً مُفكِّراً قادراً على إستيعاب القرارات والأحداث الداخلية والخارجية التي تؤثر فينا جميعاً، وتمكننا من الصمود في وجه أي تأثير خارجي، خاصةً في الوقت الراهن الذي نشهد فيه تغييرات كبيرة على المستويات الإقليمية والعالمية. شخصيا، لقد مكنتني دراسة العلوم السياسية – وخاصة المتمثلة بإجرائي لدراسة حول السياسة الخارجية العُمانية – من أن أفهم بعُمق الدوافع التي تقف خلف قرارات كبرى وجعلتني أُثَمن مستوى الفطنة والحكمة لِقادتنا. بينما قبل إجراء البحث كانت بعض الحقائق غائبة عني وكان تقديري لها محدود ومنبعها لمجرد من كوني عُمانية – والذي أعتبره تقديراً سطحياً لأني لم أكن واعية بالتعقيدات الكثيرة المُصاحبة لبناء واحة السلام الذي نعيش فيه. وبعد إتمام الدراسة تحول تقديري تحولاً جذريّا فأصبحت مُستوعِبة للجُهد الشاق الذي بُذل لبناء وطن يسوده الأمن والأمان. هذه التوعية خلقت فيني إرادةً قويةً لِخدمَة بَلدي بأي وسيلة كانت ومنها بالمساهمة في نشر التوعية.

إن ’العِلم‘ بالشيء يجلب الوعي به كما أن العِلم كان وسيظل أعظم مفتاح لنمو البلد. ولربما الفرص والأدوات الفكرية والعملية التي كسبتها من خلال إقامتي المؤقتة في الخارج والتي أدَّت إلى الفهم الجذري لبلدي ستتوفر في بلدنا يوما ما. ونحن قادرين على تحقيق هذه الخطوة إن تجاوزنا ’الخوف ‘في تقبل الأفكار الجديدة الذي أعتبره أحد أسباب التأخر في التقدم في مجال العلوم السياسية والبحوث الفكرية. أما إن إستمرينا في الخوف فسنخسر الفرصة لخلق أجيال مُفكِّرة قادرة على المساهمة في هذا المجال، ليس فقط على المستوى المحلي بل على المستوى الدولي. فإن أردنا ضرب مثالٍ لمفكر أفاد بلده بفكره فلدينا أعظم مثال لخيرة مفكر وهو السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه. كما أن فهم السلطان الراحل لم يكن محصورا في نطاق ضيق مربوط بالمجتمع المحلي فقط بل بإدراك تام لشؤون الدول الأخرى وعلاقتها وتأثيرها ببعضها البعض.

فعلينا أن نقدر قيمة مجال العُلوم السياسية لأهمية دروسه العالمية المتنوعة وأدواته النظرية والفكرية التي تفيد الفرد في إستيعاب ذاته وما يدور حوله، وأيضا لمكانة المجال في إبراز الأفكار وقوتها في تشكيل مسار العالم ولأن أساس كل شيء يبدأ بفكرة. وأستحضِرُ هنا سؤال طُرح عَليَّ من قبل أحد الموظفين الحُكومي وهو:"ما هدفك وماذا تريدين أن تفعلين؟" وإجابتي عليه كانت بإختصار:" أريد أن أخدم فلسفة (فكرة) أُؤمن فيها." فالناس تأتي وترحل ولكن الأفكار تبقى وتدوم. ولكل فرد يتساءل عن قرارات السلطنة له الحرية في بناء آرائه، ولكن لِنتذكر قبل التشكيك فيها، بأن سلطنة عُمان في مسار السياسة الحالية تحت قيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق – حفظه الله ورعاه – لا تنتقص من حق الآخرين ولا تسمح بالآخرين أن تهضم من حقها.