التصادم العالمي

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢١/مايو/٢٠١٨ ١٤:٥٢ م

كيشور محبوباني

يبدو أن العلاقة الثنائية الأكثر أهمية في العالَم ــ بين الولايات المتحدة والصين ــ هي أيضاً واحدة من أكثر العلاقات غموضاً وإبهاماً. الواقع أن هذه العلاقة المبتلاة بالمفارقات، والمفاهيم الخاطئة، وانعدام الثقة، أصبحت مصدراً لقدر كبير من عدم اليقين، وربما زعزعة الاستقرار بشدة. ويتجلى هذا بأكبر قدر من الوضوح في الحرب التجارية الثنائية التي تتشكل الآن.

يتلخص الدافع الأساسي الذي يحرك النزاع الحالي، والذي بدأته إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في العجز التجاري الأمريكي البالغ الضخامة ــ وكله بسبب الصين. حتى أن وزير الخزانة الأمريكي ستيف منوشن ذهب إلى حد مطالبة الصين بخفض فائضها التجاري من جانب واحد مقابل الولايات المتحدة بمقدار 200 بليون دولار بحلول العام 2020.

غير أن أغلب خبراء الاقتصاد العقلاء يتفقون على أن العجز التجاري الأمريكي ناتج عن عوامل اقتصادية بنيوية داخلية، وخاصة انخفاض المدخرات الأسرية، والعجز الحكومي المستمر، والدور الذي يلعبه الدولار الأمريكي بوصفه العملة الاحتياطية الرئيسية في العالَم. ويرى جوزيف جاجنون، كبير زملاء معهد برينستون للاقتصاد الدولي، أن الولايات المتحدة ينبغي لها أن تبدأ بخفض عجزها المالي الضخم، إذا كانت راغبة في خفض عجزها التجاري.
ومع ذلك، ليس من الواضح حتى ما إذا كان خفض العجز التجاري الأمريكي أمرا ملحا إلى هذا الحد. فرغم أن العجز الخارجي ضخم بكل تأكيد، فإن الولايات المتحدة تستطيع أن تعيش بما يتجاوز إمكانياتها على نحو لا يتسنى لغيرها من الاقتصادات. فبفضل وضع الدولار كعملة احتياطية، تستطيع الولايات المتحدة أن تستوعب أغلب بقية مدخرات العالَم، والتي تمول عجز المدخرات لديها. علاوة على ذلك، وكما لاحظ مجلس ترامب للمستشارين الاقتصاديين في فبراير، فإن الولايات المتحدة تتمتع بفائض في الخدمات مع بقية العالَم، بما في ذلك الصين.
ولكن ليست إدارة ترامب وحدها هي التي تتجاهل الحجة الاقتصادية العقلانية. يحظى النهج الذي يتبناه ترامب في التعامل مع قضية التجارة مع الصين بقدر من الدعم من جانب التيار السائد في الولايات المتحدة أكبر من ذلك الذي حظيت به أي من سياساته، وهذا لأن أغلب الأمريكيين ــ بما في ذلك العديد ممن يعارضون ترامب في أي شيء آخر ــ مقتنعون بأن الصين لا تلعب بنزاهة. على سبيل المثال، صرح المعلق السياسي فريد زكريا بأن ترامب كان مصيبا «عندما يتعلق الأمر بنقطة أساسية كبرى»: وهي أن «الصين تمارس الغش التجاري».
الحق أن كل هذا التقريع للصين يتغافل عن حقيقة مفادها أن الواردات الصينية الرخيصة عملت بشكل كبير على تحسين نوعية حياة العمال الأمريكيين، الذين ظلت دخولهم المتوسطة راكدة طوال أربعين عاما. ووفقا لشركة الاستشارات «أكسفورد إيكونوميكس»، فإن شراء الواردات الصينية يوفر لكل أسرة أمريكية نحو 850 دولارا سنويا. ولأن 63% من الأسر الأمريكية لا تدخر سوى 500 دولار لحالات الطوارئ، فإن هذا ليس مبلغا ضئيلا.
بطبيعة الحال، عملت التجارة المفتوحة مع الولايات المتحدة وبقية العالَم على تمكين الصين من تحقيق أسرع خفض للفقر في تاريخ البشرية. لكن هذا لا يعني أن الصين تجني معظم الفوائد الاقتصادية. على سبيل المثال، تكسب شركة التصنيع الصينية فوكسكون 7.4 دولار فقط مقابل كل جهاز آي فون تبيعه بقيمة 800 دولار؛ أما القسم الأعظم من القيمة فيذهب إلى الأمريكيين. والآن، يضع صناع السياسات في الصين ثقتهم في ما يمكن اعتباره أهم صادرات الغرب: النظرية الاقتصادية الحديثة. ومع ذلك، يظل الصينيون خاضعين لقرارات مؤذية تتخذها الولايات المتحدة المبتلاة بسوء الإدراك. والسؤال هو ما إذا كانت الصين ستنحني للضغوط الأمريكية.
الواقع أن قيادة الصين تتحلى في نهاية المطاف بالبرجماتية. فإذا كانت بعض التنازلات الرمزية (مثل فرض قيود طوعية على الصادرات وهو ما وافقت عليه اليابان في ثمانينيات القرن العشرين) كافية لمنع التصادم، فربما تقدم الصين هذه التنازلات. ولكن عندما يتعلق الأمر بمطالب أكبر ــ وغير مبررة اقتصاديا ــ فمن المرجح أن تتمسك الصين بمسارها الحالي.
لعل المثال الأكثر وضوحا هنا هو طلب منوشن بأن تتخلى الصين عن خطة «صُنِع في الصين 2025». فقد أُخضِعَت الصين بالفعل لضوابط التصدير الأمريكية المفروضة على معدات التكنولوجيا الفائقة (بما في ذلك الحظر المفروض أخيرا لمدة سبع سنوات على بيع البرمجيات أو المكونات من قبل الشركات الأمريكية لشركة ZTE الصينية). ولا تعتزم الصين التخلي عن سعيها إلى تطوير التكنولوجيا الفائقة، فهي عنصر بالغ الأهمية في استراتيجية واضحة طويلة الأجل لنقل اقتصادها إلى أعل سلسلة القيمة العالمية.
باختصار، مهما حاولت الصين أن تتحلى بالعقل، فإن الحرب التجارية تظل احتمالاً حقيقياً ــ وسوف تلحق مثل هذه الحرب الأذى بالأمريكيين والصينيين على حد سواء. وتصبح هذه النتيجة أكثر ترجيحا بفِعل ارتباك متزايد العمق في العلاقة الثنائية بين البلدين.
في إجازة دامت ثلاثة أشهر في جامعتين أمريكيتين بارزتين تبين لي مدى تدهور المواقف تجاه الصين في السنوات الأخيرة. وإذا كان صانعو السياسات في الصين منتبهين لشدة هذا التحول ــ وقد أبلغت به إحدى الشخصيات البارزة بينهم ــ فسوف يدركون أن سياساتهم الهادئة العقلانية في التعامل مع الولايات المتحدة خلال السنوات العشرين الأخيرة قد لا تنجح في السنوات العشرين المقبلة.
الواقع أن شرح الأسباب وراء تحول الرأي في أمريكا تجاه الصين على هذا النحو السلبي يحتاج إلى كتاب كامل. لكن بعض الأسباب واضحة. ففي غضون السنوات العشر المقبلة، سوف تتجاوز الصين الولايات المتحدة اقتصاديا، برغم أنها ليست دولة ديمقراطية. وقد أخبرني العديد من المفكرين الأمريكيين أنهم يمكنهم أن يتعايشوا مع الصين الأكبر، إذا كانت ديمقراطية.
وهنا، مرة أخرى، لا يخلو الأمر من بعض اللاعقلانية: فالصين الديمقراطية ستكون أكثر عُرضة للضغوط الشعبوية والقومية، ومن المحتمل بالتالي أن تصبح شريكا أكثر إزعاجا للولايات المتحدة. بيد أن الإيديولوجية تظل تعمل على حجب رؤية الولايات المتحدة، فتجعلها عاجزة عن رؤية الفوائد المتحققة بفضل الصين التي تسترشد بالعقلانية الاقتصادية.
في المستقبل، سوف يذكر المؤرخون في امتعاض أن السياسة الطويلة الأجل التي انتهجتها أمريكا في التعامل مع الصين لم تكن نتيجة لحسابات هادئة. ومن المرجح أن يركزوا على الكيفية التي تسبب بها الاستقطاب السياسي والإيديولوجية التبسيطية في أمريكا ــ والمنتشرة بين كثيرين ينبغي لهم أن يكونوا أكثر وعيا ــ في دفع الصين إلى صراع شديد التدمير وبلا جدوى على الإطلاق.

أستاذ في جامعة سنغافورة الوطنية،

وهو مؤلف كتاب «هل فَقَد الغرب صوابه؟».