دخل إليَّ مساعدي التنفيذي وطلب مني السماح له بالتغَيب مدة ساعة عن المكتب لأنه أراد أن يوصل ابنه إلى مطار مسقط كي يلتحق برفاقه من المدرسة الهندية في الغبرة. وافقت دون تردد لكنني تعجبت عندما سألته إلى أين هم ذاهبون وأجابني بأنهم مسافرون إلى أمريكا لزيارة وكالة الفضاء الأمريكية ناسا NASA. المدرسة الهندية في الغبرة تبعث تلاميذها إلى عالم الفضاء، ونحن إلى أين نرسل تلاميذنا؟
انتظرت حتى عاد ابن مساعدي من رحلته وهو في الصف العاشر، وجلست معه اسأله عنها. تسعة وستون طالباً وطالبة وثمانية معلمين ومعلمات مرافقين وصلوا إلى اورلاندو (Orlando) مباشرة من دبي في رحلة استغرقت ست عشرة ساعة من الطيران. في تلك المدينة زاروا متحف مدام توسو (Madame Tussauds) الشهير الذي يحتوي على منحوتات من الشمع تمثل مشاهير هذا العالم، وقضوا يوماً في عالم والت ديزني (Walt Disney)، ذلك العبقري الذي غيّر إلى الأبد عالم التسلية الذكية والمرحة والنافعة للجسم والعقل وتوسيع الخيال. فاستمتعوا بالمغامرات والألعاب وعاشوا في عالمٍ افتراضي مدهش. ثم أمضى التلامذة ثلاثة أيام في رحاب وكالة الفضاء يحتكون بالعلماء والباحثين والمخترعين والمبتكرين والروّاد. عاشوا ثلاثة ايام يحلمون بالكون الواسع وكيفية الوصول إليه ومن ثم العودة إلى الأرض. وضعت لهم الوكالة برنامجاً فريداً يبيّن اهتمام تلك البلاد بالشباب والزوار. فقد طلبت منهم أن يصنعوا صاروخاً بأنفسهم بعد إعطائهم المواد والتوجيهات وذلك تحت مراقبة المتخصصين ومساعدتهم. تم ذلك وتم إطلاق الصاروخ في حقل التجارب المُعد لتلك الأغراض. ارتفع ثمانية وأربعين متراً في الفضاء وزادت سرعته على الخمسين كيلومتراً في الساعة قبل أن يهبط إلى الأرض مجدداً. زار الوفد برنامج الفضاء اتلنتيس (Atlantis) وشاهدوا بأعينهم مركباته التي غزت السماء. صاحبهم على وجبة غذاءٍ أحد رواد الفضاء حيث شاركهم تجربته بعد مهمة شارك فيها شخصياً. ثم طار الوفد الذي جاء من السلطنة، إلى مدن عديدة في أمريكا. من شيكاجو (Chicago) إلى بافالو (Buffalo) وإلى نيويورك (New York) وقفوا عند شلالات نياجرا (Niagara) ولفحهم البرد الشديد هناك، هم المعتادون على الحر في الهند والسلطنة. أسبوعان من الزمن قضاها هؤلاء الطلاب في الولايات المتحدة مع بعضهم البعض ومع أساتذتهم قد تكون غيّرت مسار حياتهم ونمطها وأوسعت خياراتهم المستقبلية. الرحلة تلك قد تكون فتحت أعينهم على عالم جديدٍ وزادت روابطهم ببعضهم البعض، يتحركون سوية، يشاركون بالتجارب نفسها ويتبادلون المشاعر والتعليقات والمقارنة مع ما اعتادوا عليه في بلادهم. علمت من الولد نفسه أن وفداً آخر من مدرسته في الغبرة قد قام برحلة مماثلة في نفس الوقت تقريباً إلى جمهورية الصين. يبدو أن مدرستهم قد استهدفت دولتين عظيمتين لهذا العام. سألت والده عن تكلفة الرحلة برمتها. أجابني بأنها لم تزد عن ألف ومئتين ريال عماني! تشمل تذاكر السفر ذهاباً وإياباً إلى أمريكا وثمن تذاكر السفر على الرحلات الجوية المتعددة داخل البلاد كما أن المبلغ المذكــــور يغطي مصاريف الأكل والشرب والمنامة والتنقل ورسوم الدخول إلى المتاحف والحدائق والأماكن السياحية. حتى أنه يغطي تكاليف إطلاق صاروخ غير عابرٍ للقارات.
جلست أتساءل بعد المقابلة مع ذلك الشاب الذي أضحى ينظر إلى المستقبل بعين واثقة، عين المعرفة والأمل، ماذا عن طلابنا وطالباتنا نحن؟ هل نكتفي بأن نأخذهم إلى صلالة خلال الخريف أم مسقط خلال مهرجانها، أو أن ندعهم يذهبون إلى بلاد مجاورة دون هدفٍ أو تخطيط مسبق فيهدرون وقتهم وأموال أهلهم؟ أين تقع أنشطة مماثلة لرحلة أمريكا أو الصين في مناهجنا التربوية وهل الألف ريال هي العائق؟ وإذا تمكن الموظف الصغير الهندي أن يوفره لابنه، هل نعجز نحن عن ذلك ونحن أهل الدار التي تعيش نهضة ازدهار وإنماء. أم إن ثقافة الدعم من الحكومة أصابتنا بالشلل. أم إننا غافلون عن مسؤولياتنا كآباء أو أن المدرسة تخلت عن دورها الواسع واكتفت بساعات الدوام القليلة؟ نحن نعلم أن شبابنا يفتقرون إلى الابتكار. هل تساءلنا لماذا؟ هل هيأنا لهم البيئة والمناخ والفرصة ليواكبوا عصرهم ويساهموا في الثورة الصناعية الرابعة وهي أصبحت على الأبواب؟ نعترف أن هناك بعض المبادرات الطيبة لتشجيع الشباب على اكتشاف طاقاتهم وتطويرها وإطلاق العنان لها، مثل مبادرة إبحار عُمان (Oman Sail) وقيام مركز اوتباوند (Outbound) على رمال بدية، وأن هناك مبادرات فردية ونجاحات تلتها مثل علي الحبسي وإنجازاته الكروية، والزبير والوهيبي في سباقات السيارات والبلوشية في التزلج على جليد القطب، والنبهانية في تصفيات التنس الأرضي وسيف الرحبي في الثقافة والشعر، لكنها ليست كافية بالمقارنة مع الأعداد الكبيرة من شبابنا وشاباتنا. إن مراجعة أنظمتنا التربوية ومناهجها دورياً كي تتماشى مع المتغيرات، أمرٌ حيويٌ لمواكبة العصر ولصنع الحدث وتحقيق الاستدامة والرقي.
المطلوب اليوم رحلةٌ من المدرسة السعيدية ومن مدرسة جابر بن زيد إلى ناسا (NASA) ومن الفلج والنخلة إلى الفضاء الكوني. وشبابنا قادرون على ذلك.