زاهي وهبي
حين نقول إن الفنون تهذب النَّفْس البشرية وتساهم في سموها وارتقائها الى أعلى سوف نجد مَن يجيب بأن ثمة فنانين كانت أعمالهم مصدر "الهام" لطغاةٍ ووحوش بشرية كما كان الحال مع النازية وهتلر الذي استعان بفنانين ومفكرين في الترويج لأفكاره المجنونة. هذا صحيح، لكنه استثناء. القاعدة أن الفن باختلاف تعبيراته وأشكاله له تأثير كبير في تشكيل الوعي النقدي والذائقة السليمة وتكوينِ حسٍّ مرهف ينأى بصاحبه عن العنف والتطرف في المشاعر والأفكار. عفواً، قد يتطرف عاشق الفن ويصل الى حافة الجنون، لكنه تطرف جميل مبدع مختلف عن التطرّف القاتل الذي حوَّل بلادنا الى ما يشبه المقبرة الجماعية في حفلة جنون دموية لها أول وليس لها آخر، اذ لن تُكتَب نهاية قريبة لما يعصف بِنَا ما لم يصحو العقل العربي من سباته ويُعلِي شأن المعرفة على ما عداها كي نبدأ خطوات أولى في مشوار الألف ميل للخروج من النفق المسطوم الذي يخنقنا ويحجب عنا النور وضوء الشمس. ما لم تشرق شمس العقل أولاً لن نعرف شمس النهوض والتقدم واللحاق بركب الأمم المعاصرة المتحضرة.
دَرَجْنا في الأسابيع الفائتة على الكتابة عن الكتاب والقراءة وضرورتها لتحصين الذات وتشكيل زوادة معرفية قيمة، وعن أهمية الثقافة العامة في سبيل أستيلاد حركة نهضوية تنقذنا من مستنقع التخلف والتطرف، واليوم نضيف الى ضرورة الكتاب وأهميته (سواء كان ورقياً أو إلكترونياً) الفنون جميعها، لماذا؟ لأنها كما أسلفنا من أهم العوامل المؤثرة في تكوين شخصية الانسان، نعني هنا الفنون الجميلة الراقية لا "الفنون" التجارية الهابطة التي تشوه ذائقة المرء عِوَض الارتقاء بها. هل أجمل من أن ينشأ الطفل (الى جانب الكتاب طبعاً) على رؤية لوحة تشكيلية معلّقة على جدار غرفته أو على مقطوعة موسيقية ترافقه لحظة نومه واستيقاظه، أن يعتاد الذهاب الى السينما والمسرح برفقة ذويه، أن يُقدِّر فنون الرسم والنحت والموسيقى والتمثيل ولا ينظر إليها بازدراء أو بوصفها رجساً من عمل الشيطان، بل نِعماً الهية سُخِّرت لكي تكون حياتنا أخفَّ وطأة، ولا غرابة البتة في كون الفنون تزدهر مع ازدهار الأمم وعلو كعبها كما حصل في بغداد الرشيد أو أندلس العرب، حينها كانت فنون الشعر والموسيقى والغناء والعمارة في أوجها، ومَن ينسى قصيدة ابن الرومي في "وحيد" المغنية. اليوم تكفي زيارة واحدة الى اسبانيا ومشاهدة الإرث الابداعي الذي خلّفه العرب لمعرفة أهمية الفنون في السياق الحضاري لنهضة الأمة.
أسوأ مشهد قد نراه بعد مشاهد القتل والذبح والتدمير والتخريب الممنهج لعواصم ومدن عربية كثيرة، هو مشهد تحطيم آلات العزف والموسيقى على أيدي متشددين ومتطرفين جهلة يتوهمون أنهم بذلك يتقرَّبون الى الله سبحانه وتعالى، غير مدركين أن الفنون الراقية في إمكانها أن تكون طريقاً الى معرفة الخالق والتسبيح بحمده، وأن الآلة، أي آلة، موسيقية أو سواها، يمكن استخدامها في سبيل الرقي والرفعة كما يمكن استخدامها في الابتذال والاستهلاك ومخاطبة الغرائز والعصبيات. اذا كان ثمة مشكلة فهي في صاحب الآلة أو مستخدِمها لا في الآلة نفسها، لذا يبدو مشهد تحطيم آلات الموسيقى مشهداً جنونياً يفضح أصحابه ويكشف مقدار جهلهم وتخلفهم ونزوعهم الى الأعمال الاستعراضية الفارغة. فالموسيقى من أهم الفنون التي ابتدعها الانسان، تسمو بِالنَّفْس البشرية وترتقي، واليوم باتت تساهم في علاج الأمراض النفسية والعصبية نظراً لمفعولها السحريّ الجميل النافع، بل ان ثمة أنواعاً من النبات تغدو أكثر نمواً وتفتحاً حين "تصغي" الى الموسيقى.
المشكلة الفعلية التي تواجهنا في مجتمعات كمجتمعاتنا حيث الفقر والأمية والبطالة مرتفعة المنسوب بما يتجاوز الخطوط الحمراء، هي كيف يستطيع الانتباه الى الفنون مَن ينام خَاوِيَ المعدة لأنه لا يجد قوت يومه ولا خبزه كفاف يومه؟ كيف يتفاعل مع الفن مَن لا يقرأ ولا يكتب؟ بل كيف يفهمه المتعلم أصلاً اذا لم يكن ذا ثقافة عامة؟
والآن ماذا تعني الفنون جميعها لأولئك المهجرين من بيوتهم وأوطانهم؟ أو لمن فقدوا أحبة وأعزاء؟ ودُمِّرت بيوتهم وأرزاقهم؟ لأولئك الغرقى في البحر أو على شفا الموت طلباً للضفة الأخرى من الأبيض المتوسط؟
كلها أسئلة محقة ومشروعة، لا اجابة شافية عليها بغير السعي لتحقيق نهضة تنموية شاملة تكافح كل تلك الآفات، متى انتهى الفقر وامحت الأمية وانتفت البطالة وسادت العدالة الاجتماعية تراجعت احتمالات الحروب واستعصت بلادنا على مشاريع الفتن والتفتيت والتجزئة. لا مشروع نهضوياً تنموياً بلا احترام العقل، والفنون من أجمل نتاجات العقل البشري، ليست ترفاً ولا كماليات، بل هي احدى الأدوات الممكنة لمكافحة الفقر والأمية والبطالة، فالإنسان متى تحلى بالوعي والمعرفة والثقافة ازدادت فرص نجاحه في الحياة، ومتى نجح يغدو أكثر مقدرة على مكافحة تلك الآفات. إذاً، الفنون من أهم روافد الوعي والمعرفة لذا علينا احترامها وتقديرها وتوفير ما استطعنا اليه سبيلاً منها لأطفالنا كي نحصّن أرواحهم وعقولهم في مواجهة عالم لا يعرف الرحمة.
لا ليست الفنون جنوناً ولا ترفاً، بل ضرورة من ضرورات العيش والحياة، فما أوحش هذا الكوكب لولا الشعر والموسيقى والغناء وسائر أشكال التعبير الإنساني.
قديماً قيل "الفنون جنون". اليوم نقول ما أجمل جنون الفنون مقارنة بجنون العصبيات القاتلة المدمرة.