مقومات النمو المفقودة

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٤/يناير/٢٠١٨ ٠٤:٥٠ ص
مقومات النمو المفقودة

مايكل سبنس

يخضع القسم الأعظم من الاقتصاد العالمي حالياً لاتجاهات نمو إيجابية: فالبطالة في انخفاض، وفجوات الإنتاج تضيق، والنمو ينتعش، ولكن لأسباب غير واضحة بعد، يظل التضخم أقل من المستويات المستهدفة للبنوك المركزية الكبرى. لكن على الجانب الآخر، يبقى نمو الإنتاجية ضعيفا، مع تزايد تباين الدخول، ومعاناة العاملين الأقل تعليما في العثور على فرص وظيفية جذابة.

بعد ثماني سنوات من التحفيز الشديد والمكثف، تنهض الاقتصادات المتقدمة حاليا من فترة مطولة من تقليص المديونيات التي تسببت بشكل طبيعي في كبت النمو من جانب الطلب. ومع تغير مستوى وتركيبة الدين، قلت ضغوط تقليص المديونيات، مما يسمح بتوسع عالمي متزامن.

لكن في النهاية سيكون العامل الرئيس المحدد لنمو الناتج المحلي الإجمالي ــ ومدى شمولية نماذج النمو ــ هو ما سيتحقق من مكاسب في الإنتاجية. غير أن هناك أسبابا كثيرة تدعو للشك في حدوث انتعاشة تلقائية في الإنتاجية، وفقاً لمعطيات الوضع الراهن. فهناك عناصر عدة مهمة مفقودة في مزيج السياسات، الأمر الذي يلقي بظلاله على إمكانية تحقيق كل من النمو الكامل للإنتاجية، وإحداث تحول نحو نماذج نمو أكثر شمولية.
أولا: لا يمكن تحقيق النمو المحتمل في غياب رأسمال بشري كاف. ويبدو هذا الدرس واضحاً في تجربة الدول النامية، إلا أنه ينطبق أيضا على الاقتصادات المتطورة. فللأسف لا تبدو المهارات والقدرات مسايرة للتحولات الهيكلية السريعة في أسواق العمل في معظم الاقتصادات. وقد ثبت بالدليل عدم استعداد الحكومات أو قدرتها على التحرك بقوة وفعالية في مجال التعليم وإعادة التدريب على المهارات، أو فيما يتعلق بإعادة توزيع الدخل.

وفي دول كالولايات المتحدة، نجد أن توزيع الدخل والثروة مشوه إلى الحد الذي يجعل الأسر منخفضة الدخل غير قادرة على الاستــــــثمار بالقدر الذي يمكنها من التكيف مع ظروف العمل المتغيرة بسرعة.

ثانيا: تعاني معظم أسواق العمل من فجوة معلوماتية كبيرة ينبغي سدها. ورغم إدراك العاملين لحتمية قدوم التغيير، فهم لا يعرفون كيفية تطور متطلبات المهارات، وبالتالي لا يستطيعون تأسيس اختياراتهم على بيانات ملموسة. ولم تقترب الحكومات والمؤسسات التعليمية والشركات حتى من توفير التوجيه الكافي في هذا الشأن.
ثالثا: تميل الشركات وكذلك الأفراد للذهاب إلى الأماكن التي تتسع فيها الفرص، وتنخفض فيها تكلفة مباشرة الأنشطة التجارية، وتتهيأ فيها فرص جيدة لتوظيف العاملين، وترتفع فيها جودة الحياة.

وتعتبر العوامل البيئية والبنية التحتية عناصر مهمة وأساسية لإيجاد مثل هذه الظروف الديناميكية والتنافسية. فالبنية الأساسية الجيدة مثلا تخفض تكلفة الاتصال وتحسن جودته.
ونجد أن معظم النقاشات المؤيدة للاستثمار في البنية التحتية تتركز على الأوجه السلبية مثل: انهيار الجسور، والطرق السريعة المزدحمة، والطيران المنخفض الجودة، إلى غير ذلك من أوجه القصور المحتملة.
لكن ينبغي لصانعي السياسات النظر إلى ما هو أبعد من الحاجة إلى الإسراع بمعالجة مشاكل الصيانة المؤجلة، إذ ينبغي أن يكون الطموح متجها نحو الاستثمار في مشاريع البنية التحتية القادرة على خلق فرص جديدة تماما للاستثمار في القطاع الخاص وتحديثه.

رابعا: تعد البحوث الممولة تمويلا عاما في مجالات العلوم والتكنولوجيا والطب الحيوي أمراً لا غنى عنه لتحفيز عملية التحديث على المدى البعيد. فنظرا لدورها في إثراء المعارف العامة، تسهم الأبحاث الأساسية في فتح مجالات جديدة لتحديث القطاع الخاص. وحيثما أُجريت الأبحاث، فإنها تفرز تأثيرات غير مباشرة داخل الاقتصاد المحلي المحيط.
تقريبا لا يمثل أي من هذه الاعتبارات الأربعة ملمحا مهما لإطار السياسات السائد حاليا في معظم الدول المتقدمة. ففي الولايات المتحدة مثلا، أقر الكونجرس حزمة إصلاح ضريبي قد تسفر عن زيادة إضافية في الاستثمارات الخاصة، لكنها لن تسهم إلا قليلا في تقليص التفاوت في الدخول، أو تطوير رأس المال البشري أو إعادة توزيعه، أو تحسين البنية التحتية، أو توسيع المعارف العلمية والتكنولوجية. بمعنى آخر، تتجاهل تلك الحزمة المقومات الأساسية المطلوبة لوضع الأساس لنماذج نمو مستقبلية متوازنة ومستدامة تتسم بمسارات إنتاجية عالية اقتصاديا واجتماعيا مدعمة بكل من جانب العرض وجانب الطلب (بما في ذلك الاستثمار).

مايكل سبنس حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد وأستاذ الاقتصاد بكلية ستيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويوروك وزميل زائر متميز في مجلس العلاقات الخارجية

وزميل معهد هوفر بجامعة ستانفورد.