لميس ضيف
عندما يرغب أحدهم في «مناكفة» صحفي، أو هدم صومعة غروره على رأسه يقول عنه: من هو؟ أيظن نفسه هيكل؟
فالصحفي والكاتب محمد حسنين هيكل هو الأيقونة التي يبدو لكل ممتهن للصحافة قزما أمامها. هو الشخص الأسطورة التي يتمنى كل طالب إعلام أن يصل لعتبات ما وصلت إليه، هو الأيقونة التي فشل كل من قلدها في محاكاتها.
عن عمر ناهز الـ93 عاما ودعنا قبل أيام، ظل حتى هذا العمر المتقدم، وحتى مقابلته الأخيرة قبل أشهر، محتفظا بالصورة الخرافية التي عرف بها: بكامل قواه الفكرية، بذاكرته الحديدية، بأناقته وطلته الراقية.
ولأنني من بين محبيه ولي حق نعيه -بطريقتي- سأتعرض هنا للمحات من حياته تستحق الاحتذاء بها منا جميعا:
بعد تقاعده الاختياري اشترى شقة مقابل بيتــه، كان يستيقظ مبكرا كل صباح ويلبس ويتهندم ويتوجه للشقة المقابلة لبيته ليقرأ ويكتب ويتابع، لقد كانت تلك طريقته ليحتفظ بنشاطه الفكري وتوهجه وهي نقطة على بساطتها تروى الكثير عن الرجل وحياته ورتمها المنظم.
ودع عموده «بصراحـــة» الذي كتبه لمـــدة 50 عاما وهـــو في مجده في العام 2003.. وترك باختياره رئاســـة تحرير الأهرام التي قادها لـ17 عاما وجعلها واحدة من أهم 10 صحف بحنكته وعمقــه.. لم يتشبث بالكرسي حتى وفاته.. ولــم ينتظر أفول نجمه لأنه سيقـــود صحيفته للمصير ذاته لو فعل.. بل سلم الشعلة لغيره بكل سرور رغم قدرته على الاستمرار.
تعرض هيكل في حياته لمحاولات تسقيط عدة للنيل من تاريخه وسمعته، مقالات وكتب وهمز ولمز.. كان بإمكانه أن يرد ويفند الادعاءات والأكاذيب كلها ولكنه ترفع عن كل ذلك.. ركز على العمل وترك للآخرين حرية النقد وإن وصل للتجريح.. نعم؛ واثق الخطوة يمشي ملكا وقد ترفع عن المهاترات طيلة حياته.
هيكل، ورغم الثروة التي حققها لاحقا وأصبح من أغلى كتاب العالم أجرا، إلا أنه في الشطر الأول من حياته لم يكن يبالى للمادة ولا لدخلــه.. لقد كان يؤسس قاعدته الجماهيرية ويبنـــي مهنتـــه وانتظر سنوات عدة حتى جنى ثمار جهده.. وهو من قال يوما: «فــي بداية حياتي كنت أتقاضى أقل بكثير مما أستحق، في الثلث الثاني من حياتي صرت أتقاضى ما أستحقه مـــن أجـــر نظير عملي، في الثلث الأخير من حياتي صرت أتقاضى أكثر بكثير مما أستحق» وتلك بذاتها رسالة للمجتهدين: لا تتعجل القطاف.. فنصيب المجتهد قادم لا محالة..
لقد تعلمنا من هيكل الكثير.. وسيبقى مدرسة للأجيال المقبلة أيضا، وسيبقى نموذجا للإعلامي الذي رسم سياسات دول وغيّر مجريات التاريخ وهو ما غفر له أخطاءه، والخطأ في التقدير والتحليل والمقاربات وراد، فليس بيننا من يملك الحقيقة المطلقة وإن ظن خلاف ذلك..