الهروب العظيم من الصين

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٨/فبراير/٢٠١٦ ٢٣:٢٥ م
الهروب العظيم من الصين

كينيث روجوف

منذ بدأ عام 2016، ظَل احتمال خفض قيمة الرنمينبي الصيني بدرجة كبيرة يخيم على الأسواق العالمية كالسيف المسلط. ولم يكن أي مصدر آخر لعدم اليقين بشأن السياسات ليكفي في حد ذاته لزعزعة الاستقرار إلى هذا الحد. ويكاد المراقبون يُجمِعون على أن الصين سوف تضطر إلى ترك سِعر صرف الرنمينبي يطفو بحرية في وقت ما خلال العقد المقبل. والسؤال الآن يتعلق بكم الأحداث الدرامية التي قد تقع حتى ذلك الحين، وخاصة مع تصادم الضرورات السياسية والاقتصادية.
قد يبدو من المستغرب أن يستبد القلق بشأن ضعف العملة بالدولة التي كانت في عام 2015 تدير فائضاً تجارياً يعادل 600 مليار دولار أميركي. بيد أن مجموعة من العوامل، بما في ذلك تباطؤ النمو الاقتصادي والتخفيف التدريجي للقيود المفروضة على الاستثمار في الخارج، أطلقت العنان لسيل من تدفقات رأس المال إلى الخارج.
الآن يُسمَح للمواطنين الأفراد بإخراج ما يصل إلى 50 ألف دولار أميركي سنوياً من البلاد. وإذا مارس واحد فقط من كل عشرين مواطن صيني هذا الخيار، فسوف تُمحى احتياطيات الصين من النقد الأجنبي. وفي الوقت نفسه، كانت الشركات الغنية بالسيولة النقدية في الصين حريصة على توظيف كل وسيلة ممكنة لإخراج المال من البلاد. ويتمثل الأسلوب القانوني تماماً في الإقراض بالرنمينبي على أن يكون سداد القرض بالعملة الأجنبية.
وثمة أسلوب آخر غير قانوني يتلخص في إصدار فواتير تجارية زائفة أو مضخمة ــ وهو في الأساس شكل من أشكال غسل الأموال. على سبيل المثال، يستطيع أي مُصَدِّر صيني أن يذكر سِعر بيع لمستورد أميركي أقل من الذي يحصل عليه بالفعل، مع إيداع الفارق سراً بالدولارات في حساب مصرفي في بنك أميركي (وهو الفارق الذي يمكن استخدامه بالتالي لشراء لوحة لبيكاسو).
والآن وقد اشترت شركات أميركية عدداً كبيراً من الشركات الأميركية والأوروبية، أصبح من الممكن حتى غسل الأموال داخليا. ولم يخترع الصينيون هذه الفكرة. فبعد الحرب العالمية الثانية، عندما كانت أوروبا المدمرة مخنوقة بضوابط النقد الأجنبي، بلغت تدفقات رأس المال غير القانونية إلى خارج القارة في كثير من الأحيان 10% من قيمة التجارة في المتوسط أو أكثر. ولأن الصين واحدة من أكبر البلدان المتاجرة في العالم، فيكاد يكون من المستحيل أن تتمكن من منع تدفقات رأس المال إلى الخارج بإحكام عندما يصبح الحافز للخروج كبيراً بالقدر الكافي.
والواقع أن بنك الشعب الصيني اضطر برغم الفائض التجاري الضخم إلى التدخل بشكل كبير لدعم سِعر الصرف ــ حتى أن احتياطيات النقد الأجنبي انخفضت في واقع الأمر بنحو 500 مليار دولار في عام 2015. وفي ظل ضوابط رأس المال غير المحكمة هذه، لن يكون احتياطي وقت الشِدة (3 تريليون دولار أميركي) كافياً لإبقاء الحِصن قائماً إلى الأبد. وكلما شعر المزيد من الناس بالقلق إزاء احتمال استمرار سعر الصرف في الانخفاض، كلما تعاظمت رغبتهم في إخراج أموالهم من البلاد على الفور. وكان هذا التخوف بدوره من العوامل المهمة التي تدفع سوق الأسهم الصينية إلى الانخفاض.
وقد انتشرت التكهنات في السوق بأن السلطات الصينية تعتزم خفض قيمة العملة بشكل كبير لمرة واحدة، ولنقل بنسبة 10%، من أجل إضعاف قيمة الرنمينبي بالقدر الكافي لتخفيف الضغوط التي تدفع سعر الصرف إلى الانخفاض. ولكن بعيداً عن توفير مادة سخية لأمثال دونالد ترامب، الذين يعتقدون أن الصين شريك تجاري غير عادل، فإن مثل هذا الاختيار للاستراتيجية أمر بالغ الخطورة بالنسبة لحكومة لا تثق فيها الأسواق المالية حقا. ومكمن الخطر الرئيسي هنا هو أن خفض القيمة بدرجة كبيرة قد يُفَسَّر على أنه يشير إلى أن التباطؤ الاقتصادي في الصين أشد مما يتصور الناس، وإذا حدث هذا فسوف يستمر المال في الفرار.
لا توجد وسيلة سهلة لتحسين التواصل مع الأسواق إلى أن تتعلم الصين كيفية إنتاج بيانات اقتصادية ذات مصداقية. وكان خبراً كبيراً عندما ذكرت التقارير أن نمو الناتج المحلي الإجمالي عام 2015 في الصين كان 6.9%، أو أقل قليلاً من الهدف الرسمي (7%). ولابد أن يكون هذا الفارق غير ذي شأن، غير أن الأسواق تعاملت معه باعتباره أمراً شديد الأهمية، لأن المستثمرين يعتقدون أن الأمور لابد أن تكون سيئة حقاً ما دامت الحكومة غير قادرة على التلاعب بالأرقام بالقدر الكافي لبلوغ الهدف المعلن.
وربما يكون من المناسب أن تبدأ السلطات بإنشاء لجنة من خبراء الاقتصاد لإنتاج مجموعة أكثر واقعية ومصداقية من أرقام الناتج الوطني الإجمالي، وتمهيد الطريق إلى أرقام للناتج الوطني الإجمالي أكثر قابلية للتصديق بمرور الوقت. ولكن بدلاً من ذلك، تتلخص الفكرة التي سرعان ما طرأت على ذهن الحكومة لتخفيف الضغوط على سعر الصرف في ربط الرنمينبي بسلة تتألف من 13 عملة، وليس الدولار الأميركي فقط. وهي فكرة طيبة من الناحية النظرية؛ غير أن الربط بسلة عملات يميل في الممارسة العملية إلى خلق مشاكل مزمنة تتعلق بالشفافية.
وعلاوة على ذلك، يشترك الربط بسلة عملات مع الربط البسيط بالدولار في أغلب المشكلات المتعلقة به. صحيح أن اليورو والين انخفضا في مقابل الدولار على مدار العامين الماضيين. ولكن إذا تراجع الدولار في عام 2016، فإن الربط بسلة العملات يعني ضمناً ارتفاع سعر الرنمينبي في مقابل الدولار، وهو ما قد يكون مفيدا. كما أشارت الحكومة إلى أنها تعتزم تضييق الخناق بشكل أكثر صرامة على تدفقات رأس المال غير القانونية؛ بيد أن إعادة الجني إلى القمقم لن تكون بالمهمة السهلة.
الواقع أن الحياة كانت لتصبح أسهل كثيراً اليوم لو انتقلت الصين إلى درجة أكبر كثيراً من مرونة سعر الصرف عندما كانت الأمور في رواج، كما نصحها كثيرون منا لأكثر من عقد من الزمان. وربما تتمكن السلطات من الصمود في عام 2016؛ ولكن من المرجح أن يواصل الرنمينبي رحلته الوعرة ــ جاراً معه الأسواق العالمية إلى أسفل.

كبير خبراء الاقتصاد في صندوق النقد الدولي سابقا، وأستاذ الاقتصاد والسياسة العامة في جامعة هارفارد حاليا.