علي ناجي الرعوي
ينطوي الاتفاق الامريكي _الروسي على وقف انطلاق النار في سورية ابتداء من السبت المقبل على دلالات كثيرة بما فيها الدلالات الاستراتيجية التي تتعدى المفهوم المباشر لمصطلح (البراغماتية) الذي اجاد القيصر الروسي اتقانه في سورية بصورة لا تتوفر عند الكثيرين من الذين تشربوا من نهر النظرية الماركسية فقد نجح فلاديمير بوتين من تحويل تدخله العسكري الذي اعتبره الغرب في الايام الاولى ليس اكثر من مغامرة فاشلة ومحاولة عقيمة لقوة خائرة تسعى الى اعادة مركزها ونفوذها المفقود الى انجاز اسهم في اعادة القوة الروسية الى منطقة الشرق الاوسط التي اصبحت منذ انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية منطقة نفوذ للامريكيين والأوروبيين وكما لو اننا امام قواعد جديدة للعبة انهت كل تلك المصطلحات التي شاعت على مدى الربع القرن المنصرم.
البعض لم يستوعب بعد كيف امكن للكتلتين الدوليتين الولايات المتحدة وروسيا التوصل الى مثل هذا الاتفاق وكلاهما يدعم قوتين اقليميتين متناحرتين في المنطقة (ايران والسعودية) ؟ ولذلك فهو من ينظر الى اتفاقهما بشأن وقف اطلاق النار في سورية بذهول او ارتياب ان لم ير فيه نوعا من الخداع سرعان ما سينهار تحت ايقاع تعقيدات الوضع السوري وما يحاط به من تشابكات داخلية وإقليمية ودولية ورغم هذه الحالة من التشاؤم فلا يمنع ذلك من القول ان الكتلتين اللتين كانتا حتى الامس تواجهان بعضهما البعض قد وجدتا اخيرا ان من مصلحتيهما ان لا تخرج الفوضى في الاقليم عن سيطرتهما ومن هذه القناعة جاء اتفاقهما على الخطوة الاولى في رحلة الالف ميل لضبط ايقاع هذه الفوضى انطلاقا من اعادة ترتيب المشهد السوري بهدنة مؤقتة تتيح للأطراف المتنازعة في هذا البلد الانتقال الى مفاوضات جدية لإعادة بناء الدولة السورية وفق قواعد ليست بعيدة عن ما يحفظ مصالح جميع الاطراف وإذا ما صدقت هذه التوجهات فان ذلك سيشكل ايذانا لبدء موسم التسويات لكل الازمات المشتعلة في الاقليم والمؤجلة في اليمن وليبيا والعراق ولبنان الى ما بعد تسوية الملف السوري بصرف النظر عن شكل الصياغات التي ستظهر معها مثل هذه التسويات.
من الطبيعي عند أي حديث حول التسوية الكبرى لازمات المنطقة ان تختلف المقاربات وان يستبشر البعض في الاتفاق الامريكي _الروسي ويعتبره فاتحة لانفراجات قادمة تفرزها اتفاقات قد يتطلب ابرامها وقتا لتسويات تبدأ من سورية ثم تنتقل لتشمل مساحة التفاوض في ملفات المنطقة كرزمة كاملة لما في ذلك من علاقة بمستقبل الامن والاستقرار في هذه المنطقة الملتهبة منذ عدة سنوات فيما يتمهل اخرون قبل المبالغة بالتفاؤل حتى الانتهاء من الطبخة السورية لإدراكهم انه وما لم تتوافق واشنطن وموسكو على لجم حلفائهما في الاقليم فان ذلك كفيل بإشعال حرب واسعة في سورية لطالما سعت تلك الاطراف الاقليمية الى اشعالها وإذكاء نارها بصرف النظر عن من سيكون وقودها والرابح والخاسر فيها ولا يختلف اثنان على ان الازمات المتفاقمة في المنطقة هي بالغة الحساسية لكن فان ما جرى من اتفاق بين واشنطن وموسكو يعد في حد ذاته انعطافا حافلا بالإمكانات المحتملة بما في ذلك التوصل الى حل لكل تلك الازمات وبالذات وان التعاطي مع هذه الملفات اصبح مرتبطا الى حد كبير بموضوع الحرب على الارهاب وتمدد تنظيم (داعش) وكذا عديد من التنظيمات الجهادية التي باتت تشكل خطرا محدقا بالأمن والاستقرار في الاقليم والعالم.
خلال الاجتماع الاخير لقادة جيوش التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في مواجهة التنظيمات الارهابية والمنعقد في بروكسل قبل اسابيع سعى بعض الحضور الى التساؤل : عما حققته الحرب على الارهاب وعن سر صمود التنظيمات الارهابية في وجه الحرب العالمية ضدها وعن لغز تمويل هذه التنظيمات ومصدر تسليحها وأيضا عن خفايا الانتشار الواسع لعناصر داعش في سورية والعراق وصولا الى ليبيا وحتى جنوب سيناء وسواحل البحر الاحمر والبحر العربي على امتداد جنوب وشرق اليمن ؟ مع ان ذلك التنظيم يقصف بأحدث الطائرات الامريكية والروسية والفرنسية والبريطانية التي تنطلق منها اشد الاسلحة فتكا وتدميرا ؟
استمع الجميع الى تلك التساؤلات التي دونها البعض وحفظها البعض الاخر لكن احدا لم يجب عن أي منها لينفض اجتماع الجنرالات الاجانب والعرب ببيان يستحضر تلك الكلمات التي ترددت على مسامعنا كثيرا منذ بدء غارات التحالف الدولي على (داعش) في العراق وسورية وهو ما تيقن معه الجميع الى ان الحرب على الارهاب مازالت طويلة الى ابعد بكثير من مهلة الثلاث سنوات التي حددتها ادارة الرئيس باراك اوباما لإقفال ملف هذا التنظيم وذلك يلخص ليس فقط فصول المشهدين السوري والعراقي وإنما الوضع في المنطقة برمتها والتي يخشى ان تصبح ذات يوم خاضعة لسيطرة التنظيمات الارهابية وربما اقتنعت الإدارة الامريكية مؤخرا ان الخروج من هذا المستنقع الذي انغمست فيه المنطقة يقتضي العودة الى التوافق مع الاطراف الدولية المؤثرة وفي الصدارة منها روسيا لتأسيس تفاهم اشمل من شأنه تنفيس الاحتقان القائم في سورية حتى يتسنى التحرك بنفس الالية في اتجاه كبح دوامة العنف على مستوى الاقليم وبما يسهم في تضييق الخناق على التنظيمات الارهابية التي تعد المستفيد الاول من اجواء الفوضى التي تلف اوضاع العديد من البلدان العربية.
هناك من يعتقد ان الصراع المستميت اليوم في سورية هو نتيجة حتمية لفشل كلا المحورين المتصارعين في سورية وعليها في حسم أي منهما المعركة لصالحه فلا الجيش السوري انهار ولا الرئيس الاسد تنحى ولا الدولة السورية اعلنت طلاقها وانفصالها عن المحور الايراني وفي ذات الوقت فان المحور الاخر هو من عجز عن تعديل ميزان القوة وإحداث التغيير الذي كان ينشده قبل التدخل الروسي العسكري في سورية وبالتالي يتفق الجميع ان تركيا الجار القريب لسورية هي من قد تخرج على انها الخاسر الاكبر بعد ان خسرت المزاج الكردي داخل وخارج تركيا جراء دعمها المسلحين المعارضين الذين اصطدموا بالأكراد في سورية ومع ذلك فان على حكومة اردوغان ان تعي ان الخسارة الاكبر التي كانت ستمنى بها تركيا هي في بقاء سورية تحترق لان ذلك ما قد ينقل تداعيات الازمة السورية الى داخل تركيا بشكل اكبر واقوى خصوصا اذا ما كان تنظيم داعش ومن يدور في فلكه هو احد اطراف الصراع على الساحة التركية.
يقر الجميع ان غياب التسوية يعني حتمية وقوع حرب بين تركيا وروسيا ولذلك عمد اوباما الى الاتصال قبل ايام باردوغان لدعوته الى التهدئة وضبط النفس وهو ما شعر معه اردوغان ان الامريكيون يحاولون تحميله مسئولية فشل المشروع الامريكي في سورية وهو المشروع الذي ارتبط بشكل مباشر بعنوان وحيد رفعته السياسة الامريكية ومن بعدها السياسة التركية وهو رحيل الرئيس الاسد ولذلك فان أي تسوية لا تفضي الى تحقيق ذلك الهدف فهو سيكون خسارة واضحة بالنسبة لتركيا التي يبدو انها من استوعبت ان واشنطن تستسهل ان تحرقها في تسويتها المقبلة مع الروس وهذا ما جعل انقرة في الايام الاخيرة تقوم بعملية مراجعة حسابات لإعادة برمجة سياساتها وفق مقياس الربح والخسارة والذي قد يفيض به موسم التسويات في المنطقة .
كاتب يمني