علي بن راشد المطاعني
كثر الحديث عن البيروقراطية في الأجهزة الحكومية وعدم إنجاز المعاملات والتأخير والتعقيدات الإدارية وغيرها مما يزعج المتعاملين ويؤخر ويبطئ دوران عجلة التنمية والاقتصاد في البلاد، وهذه من المسلمات التي يدور حولها الجدل منذ فترة بعيدة بدون حدوث إي اختراقات تذكر أو ملاحظة تطور نسبي كأضعف الإيمان رغم التطورات المتلاحقة في الإدارة كعلم ودخول التقنيات الإلكترونية الحديثة كمنصات عمل في هذا المجال.
لعلنا لم نضع الدواء الصحيح على الجرح منذ أمد أو ربما لم نقف على أبعاد المشكلة كما ينبغي، إذ نحن نفترض جدلا بأن الموظف ليس على دراية بواجباته الوظيفية ونطاق وحدود عمله ودوره فيه أو ما يسمى في الإدارة بوصف العمل وصلاحياته لذلك نجده يتردد تارة في إنجاز المعاملة ويتأخر في إنجازها مرات ويحولها للأعلى منه في بعض الأوقات وهكذا تمضي وتيرة العمل في الإدارات الحكومية، عبر ملخص سريع مفاده انحسار قدرة الموظف على الإنجاز لعدم معرفته بواجباته الوظيفية كاحتمال قائم أو إنه لم يدخل مراحل تدريب تؤهله لإنجاز عمله، وهي حقائق يجب أن تقف عليها الجهات المعنية في الدولة وتعالجها بشكل جذري ومن خلال تكثيف التأهيل والتدريب في كيفية إنجاز العمل وفقا لطبيعة عمل الموظفين ودورهم وصلاحياتهم.
مناقشات كثيرة دارت حول تطوير العمل والقضاء على العقم الإداري المعترف به، وعقدت ندوات عدة حول تطوير الأداء في الجهاز الحكومي، إلا أن كل هذه الجهود وغيرها لم تحدث تحولا كبيرا أو مهما في إدارة العمل في هذا القطاع، لسبب واحد ربما لم تفطن إليه كل تلك الفعاليات والندوات وهو (وصف العمل) للموظف، وصلاحياته وحدوده الإدارية، فهذه الجزئية مهمة لإنجاز العمل، فعندما يعرف الموظف أن هذه المعاملة من صلاحياته وواجباته الوظيفية فمن الطبيعي أن ينجزها والعكس صحيح، وهو ما يجب معالجته سواء على مستوى المسؤولين أو الموظفين.
إن وصف العمل وإشكالياته تتجاوز الموظف إلى الجهات الاعتبارية ذاتها ففي الكثير منها تتداخل الأعمال فيما بينها لعدم وجود تسلسل هرمي واضح ومحدد تنتقل عبره المعاملات بسلاسة ووضوح وصولا إلى نقطة الانتهاء.
لذلك نجد أن المتعاملين يجدون أنفسهم في متاهة حقيقية وتتقاذفهم الجهات ككرة القدم تماما، تارة لأقصى اليمين وتارة لأقصى الشمال وتارة إلى داخل المرمى نفسه وهناك يجد أن معاملته لم تنجز بعد، فهناك تشابك وتعارض في الاختصاصات والصلاحيات بين الوزارات نفسها، هذه حقيقة قاسية ومؤلمة ويجب الالتفات إليها بأسرع فرصة ممكنة.
إذن فإن الوصف الوظيفي الغائب كليا نحسبه المعرقل الأول لإنجاز المعاملات، وهو الذي يحول دون إمكانية تقديم تقييم دقيق عن كفاءة الموظف وفاعليته في الإنجاز، بل وفاعلية المؤسسة نفسها في الإنجاز.
نجد الآن الكثير من الموظفين في الجهاز الإداري للدولة بدون وصف عمل واضح لهم يرشدهم لما يجب أن يقوموا به، والأعمال التي يتعين عليهم إنجازها بشكل روتيني ويومي ولحظي، وفي ظل عدم وجود هذا الوصف فإن الموظف قد يجد نفسه تائها بين المكاتب مهدرا طاقته ووقته بغير أن يعلم علم اليقين واجباته وحقوقه التي يتقاضى بموجبها راتبه الشهري، والأخطر هو أن مستوى فاعليته لن تكون في مطلق الأحوال إلا صفرا فقط.
ومع غياب مثل هذه الجوانب من الطبيعي أن يبقى الموظف لاهثا لا يعرف كيف يطور عمله وينجزه بشكل مريح، وإنما كل إنجازاته الوظيفية طوال اليوم تنصب في أن يرحّل ما بين يديه للمسؤول الأعلى، والأعلى لا يتوانى عن تحويلها للأعلى أو يعيدها تارة أخرى للأدنى وهكذا إلى أن تصل المعاملة للوزير أو الوكيل وهي مترنحة تماما من كثرة ما تلقته من ضربات ولكمات وكلها تحت الحزام.
إذن هذه الصورة المأساوية يجب الالتفات إليها ومعالجة بواطن الضعف والوهن في كل جزئياتها، وذلك على نطاق الجهاز الإداري للدولة وبشكل ممنهج تُعطى بموجبه كل وزارة فترة زمنية لوضع وصف العمل الخاص بها وبكل وحداتها ومديرياتها ودوائرها وأقسامها، بعدها يتم تقييم الجهات كل على حدة، لمعرفة مستوى الانسجام الداخلي فيها ومستوى الانسجام بينها وبين الوزارات الأخرى ذات العلاقة، فلو أنجزنا ذلك فما من شك أننا سنكون قد قطعنا نصف الطريق في التطوير الإداري الهادف للقضاء على الترهل والبيروقراطية التي أنهكت العمل والاستثمار والاقتصاد إذ الكل يئن من هذا الداء.
نأمل أن نضع أيدينا على الجرح الذي لن يندمل إلا بتحديد الداء بدقة وباعتبار أن التشخيص الصحيح هو نصف العلاج، بعدها يمكننا وصف الدواء الناجع لهذا الداء الوبيل بل ويمكننا القول إننا قد أنجزنا الأهم في منظومة البناء الإداري المنشود.