محمد عبد الله العريان
لم تَكَد الفِكرة القائلة بأن الاقتصادات الغربية استقرت على "المعتاد الجديد" المتمثل في النمو المنخفض تكتسب القبول لدى التيار السائد، إلا وبدأت الشكوك تظهر حول استمرار صِلتها بالواقع. وبدلاً من ذلك، ربما يتجه العالم الآن نحو مفترق طرق اقتصادية ومالية، مع توقف الاتجاه الذي قد يسلكه العالم على قرارات أساسية تتعلق بالسياسات.
في الأيام الأولى من عام 2009، كان "المعتاد الجديد" لم يظهر بعد على أي رادار. وبطبيعة الحال، ألقت الأزمة المالية العالمية التي اندلعت قبل بضعة أشهر بالاقتصاد العالمي إلى آتون الاضطرابات، الأمر الذي أدى إلى انكماش الناتج، وارتفاع معدلات البطالة، وانهيار التجارة. وكان الاختلال الوظيفي واضحاً جلياً حتى في أكثر قطاعات الأسواق المالية استقراراً وتطورا.
ورغم ذلك، اتجهت غريزة أغلب الناس إلى تشخيص الصدمة باعتبارها مؤقتة وقابلة للإصلاح ــ خلل حاد يتسم بالانكماش الحاد ثم التعافي السريع. فقد نشأت الأزمة على أية حال في الاقتصادات المتقدمة التي تعودت على التعامل مع دورات الأعمال، وليس في بلدان الأسواق الناشئة حيث الغَلَبة لقوى بنيوية ومزمنة.
غير أن بعض المراقبين تبينوا بالفعل دلائل تشير إلى أن الصدمة ستكون أعظم أثرا، حيث تجد الاقتصادات المتقدمة نفسها حبيسة مسار محبط طويل الأمد يتسم بالنمو المنخفض. ففي مايو 2009، صَرَّحت علناً أنا وزملائي في بيمكو بهذه الفرضية، مطلقين عليها وصف "المعتاد الجديد".
وكان استقبال هذا المفهوم شديد الفتور في الأوساط الأكاديمية والسياسية ــ وهي استجابة مفهومة نظراً لاعتيادهم الشديد على التفكير والتصرف بشكل دوري. وكان قليلون على استعداد للاعتراف بأن الاقتصادات المتقدمة راهنت بكل شيء على نموذج النمو الخطأ، ناهيك عن ضرورة النظر إلى الاقتصادات الناشئة لتبين العوائق البنيوية التي تحول دون تحقيق النمو، بما في ذلك أعباء الدين وفجوات التفاوت المفرطة الاتساع.
لكن الاقتصاد لم يشهد أي ارتداد إلى الأعلى. بل على العكس من ذلك، لم يستمر النمو البطيء والبطالة المرتفعة لسنوات فحسب، بل إن ثلاثية التفاوت (الدخل، والثروة، والفرص) تفاقمت أيضا. وامتدت العواقب إلى ما وراء الاقتصاد والتمويل، فأجهدت الترتيبات السياسية الإقليمية، وضخمت الاختلالات السياسية الوطنية، وساعدت على صعود أحزاب وحركات مناهضة للمؤسسة الرسمية.
ومع تزايد صعوبة تبرير توقعات التعافي السريع، اكتسبت فرضية "المعتاد الجديد" أخيراً قبولاً واسع النطاق. وفي هذه العملية، حظيت ببعض تسميات جديدة. ففي أكتوبر، حذرت المدير العام لصندوق النقد الدولي كريستين لاجارد من أن الاقتصادات المتقدمة تواجه "دون متوسط جديدا". وتنبأ وزير الخزانة الأميركي السابق لاري سامرز بـ"الركود المزمن".
اليوم، لم يعد من المستغرب أن يُشار إلى أن الغرب ربما يطول به المقام عند توازن النمو المنخفض لفترة ممتدة إلى حد غير عادي. ولكن، كما شرحت في كتابي الجديد "اللعبة الوحيدة في المدينة: البنوك المركزية، وعدم الاستقرار، وتجنب الانهيار التالي"، تعمل التوترات والتناقضات الداخلية المتنامية، جنباً إلى جنب مع الإفراط في الاعتماد على السياسة النقدية، على زعزعة استقرار هذا التوازن.
ومع تنامي الفقاعات المالية، تتحور المخاطر المالية، وتتسع فجوة التفاوت، وتستمر القوى السياسية غير التقليدية ــ والمتطرفة في بعض الأحيان ــ في اكتساب المزيد من الثِقَل، ويبلغ التأثير المهدئ الناجم عن السياسات غير التقليدية مداه الأقصى. وتبدو احتمالات تمكن مثل هذه السياسات من الإبقاء على المحركات الاقتصادية دائرة، ولو عند مستويات منخفضة، خافتة على نحو متزايد. وبدلاً من ذلك، يبدو أن الاقتصاد العالمي يسير نحو مفترق طرق آخر، والذي أتوقع أن يبلغه في غضون السنوات الثلاث المقبلة.
وقد لا يكون هذا أمراً سيئا. فإذا بادر صناع السياسات إلى تنفيذ استجابة أكثر شمولا، فسوف يتمكنوا من وضع اقتصاداتهم على مسار أكثر استقراراً وازدهارا ــ مسار يتسم بالنمو المرتفع الشامل، وانحسار فجوة التفاوت، والاستقرار المالي الحقيقي. ولابد أن تتضمن مثل هذه الاستجابة السياسية إصلاحات بنيوية داعمة للنمو (مثل زيادة الاستثمار في البنية الأساسية، وإصلاح الأنظمة الضريبية، وإعادة تجهيز العمالة)، وسياسة مالية أكثر استجابة، وتخفيف أعباء الدين عن جيوب المديونية المفرطة، وتحسين التنسيق العالمي. وهذا من شأنه أن يعمل، جنباً إلى جنب مع الإبداعات التكنولوجية ونشر أصول الشركات الجانبية غير العاملة، على إطلاق العنان للقدرة الإنتاجية، وإنتاج نمو أسرع وأكثر شمولا، في حين يضفي الشرعية على أسعار الأصول، التي يجري رفعها الآن على نحو مصطنع.
أما المسار البديل، الذي يستمر الخلل السياسي في دفع العالم استناداً إليه، فإنه يمر عبر غابة من السياسات التي تتسم بضيق الأفق وغياب التنسيق إلى الركود الاقتصادي، واتساع فجوة التفاوت، وعدم الاستقرار المالي الشديد. ومن شأنه هذه النتيجة أن تعمل، فضلاً عن إلحاق الأذى بالرفاهة الاقتصادية لأجيال الحاضر والمستقبل، على تقويض التماسك الاجتماعي والسياسي.
وسلوك أي من هذين المسارين ليس قدراً محتما. بل إن الاختيار في الوضع الحالي يستحيل التنبؤ به إلى حد الإحباط. ولكن في الأشهر المقبلة، عندما يواجه صناع السياسات تقلبات مالية متزايدة الحدة، سوف نرى بعض الدلائل بشأن الكيفية التي قد تؤول إليها الحال.
والأمل الآن هو أن تشير هذه الدلائل إلى نهج سياسي أكثر انتظاما ــ وبالتالي أكثر فعالية. أما مكمن الخوف فيتمثل في فشل الساسة في الابتعاد عن الاعتماد المفرط على البنوك المركزية، فتنتهي بهم الحال بعد حين إلى النظر وراءهم إلى المعتاد الجديد، رغم كل ما يعيبه من أوجه قصور وقيود وإحباطات، باعتباره فترة من الهدوء النسبي والرفاهة.
كبير المستشارين الاقتصاديين في أليانز، ورئيس مجلس الرئيس الأميركي باراك أوباما للتنمية العالمية