«تنفيذ» في ماليزيا.. دروس وعبر

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ١٠/أبريل/٢٠١٧ ٠٤:٥٥ ص
«تنفيذ» في ماليزيا.. دروس وعبر

سمعان كرم

مؤخراً نظمت شركة بيماندو الاستشارية والمعنية بإدارة الأداء عن طريق وحدات التنفيذ، وهي الشركة الماليزية المتعاقد معها لتطبيق برنامج «تنفيذ» في السلطنة، المؤتمر الدولي الثاني للتحول الاقتصادي وذلك على مدى يومي 21 و22 من مارس الفائت في كوالالمبور العاصمة. جمع المؤتمر تحت سقف واحد رئيس الحكومة الماليزية وعددا وافرا من وزرائه، وحوالي ثلاثة آلاف مشترك جاؤوا للاستماع إلى قصص نجاح يخبرها أبطالها بأنفسهم عن مسيرة تحول شامل لحياتهم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى للاستماع إلى أبطال التجربة الماليزية وتحول اقتصاد بلادهم من حالتها العام 2010 إلى الأحسن من ناحية الدخل والتوظيف والتطور والنمو والاستدامة.

فسمعنا قصة الأمريكي الأسود كريس غاردنر الذي طرد من منزل أبيه فافترش الأرصفة والتحف السماء، وكيف دخل عالم الوساطة في الأسواق المالية محققاً ثروة كبيرة، وسمعنا قصة نجاح السير ريتشارد برانسون مؤسس مجموعة فيرجن وقصة جاك ما الصيني الذي أذهل الصين والعالم بتأسيسه مجموعة علي بابا للتجارة الإلكترونية، وقصة اوسين بولط أسرع عداء على وجه الأرض، والتوصيات التي أتت من مايكل باربر مدير وحدة التنفيذ أيام رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، وشغفنا بموسيقى الجاز على البيانو لعبها ولدَ معجزة، عمره 11 سنة من كولومبيا وهو ضرير ومعاق، ورافقنا السير كريس بوننتجتون في بعثاته لتسلق جبال الهيمالايا وقمة أفريست، واستمعنا إلى سيدات عديدات انطلقن من حالات متواضعة ووصلن إلى مراكز عالية في السلك الدبلوماسي والسلم الاجتماعي، وإلى د. بول رومر الذي قال إن الناس تريد النمو لكنها لا تريد أن تتغير ويحسب رأيه لا نمو من دون تغيير. وأزعجنا صوت ريتشارد كويست مراسل محطة سي أن أن رغم خفة دمه وهو على المنصة. كانت تجربة شخصية فريدة ومشغفة تعلمنا خلالها كيف يكون تنظيم لقاءات بهذا الحجم وتلك الضخامة. نأمل من إدارة مركز المعارض عندنا أن تقوم بمثلها قريباً إن شاء الله. لكن الفائدة المهمة والملموسة جاءت عن التجربة الماليزية للتحول الاقتصادي التي ابتدأت العام 2010 واضعة رؤيتها حتى العام 2020 وأين أصبحت اليوم وما تم تنفيذه وإنجازه، خصوصاً وأننا في السلطنة قد وصلنا إلى المرحلة الخامسة من البرنامج نفسه الذي طبقَ هناك. أود هنا أن أعرض بتواضع ما تميزت به المبادرة الماليزية والطريقة التي اعتمدت للوصول إلى النتائج. إذ أن الغاية الفعلية هي أخذ العبر واختيار منها ما يناسب وترك ما لا يناسب، إذ إن لكل بلد خصوصياته، علماً أن المبادئ العامة والتجارب المكتسبة تبقى صالحة ومفيدة للجميع.

استهدفت الخطة عملية تحوَلية واسعة النطاق، وشملت جميع أجهزة الدولة عرفت بالبرنامج الوطني للتحول. وكانت مهمة الفريق الأولى والأكثر صعوبة إقناع رئيس الحكومة والوزراء بجدوى الخطة التي تتطلب منهم الكثير وتعرضهم للمساءلة والمحاسبة قبل ضمان النتائج. تم ذلك وتبنى رئيس الوزراء ولا يزال البرنامج برمته. وتسهيلاً للتركيز والدعوة له والعودة إليه من وقت إلى آخر، حددت أهداف الخطة بأمرين فقط: رفع معدل دخل الفرد الماليزي للوصول إلى مقاربته بالبلدان العالية الدخل مثل اليابان وإيجاد ثلاثة ملايين فرصة عمل جديدة مع الالتزام بالمبادئ التالية: التركيز على المشاريع التي توجد الوظائف وتخدم الناس (كهرباء، ماء، مواصلات، مجمعات سكنية خصوصا في المناطق وليس في العاصمة فقط)، عدم الاعتماد لدفع عجلة النمو على الاستدانة العالية كما في أمريكا، بل على الاستدانة المعتدلة كما في الدول الاسكندنافية، وخفض موازنات التسلح والقوات المسلحة والتركيز على خدمة الطبقة الوسطى وما دونها من الناس من ناحية دخلهم، وإشراك جميع أطراف المجتمع بالخطة وبخاصة فئة الشباب منهم.
وضعت أهداف عالية وصعبة المنال لكل وحدات الحكومة لكنها وصفت بطريقة تمكن قياسها من خلال مؤشرات الأداء (KPI). مثلا طُلب اجتذاب استثمارات بقيمة 300 بليون دولار للفترة فحقق البرنامج ليومه جذب 406 بلايين دولار، وطلب من وزير السياحة مضاعفة عدد السياح فعَدل نظام تأشيرات الدخول بكامله لتسهيل استقبالهم وألغى معظم الشروط، وطُلب من وزير الطاقة تخفيض عدد دقائق انقطاع التيار الكهربائي من 3600 دقيقة في السنة إلى 700 دقيقة وتعهد الوزير الشجاع (الذي اعتبر يومها متهوراً) أمام الصحافة بأنه سيستقيل إن لم يحقق ذلك الرقم فحقق 640 دقيقة. كل تلك المبادرات وضعت لها الموازنات الملائمة وأعلن عنها في وسائل الإعلام لاطلاع الناس عليها وجذبهم لتأييدها ومتابعة تنفيذها. قال أحد المسؤولين عندهم إن أية خطة بدون اعتمادات مالية تبقى مسودة، والمسودات لا تنشر. كلفت الحكومة معالي إدريس جالا لمتابعة تنفيذ البرنامج الوطني من قبل الجهات الحكومية المختلفة أي كلفت الحكومة للمتابعة الرجل نفسه الذي وضع الخطة. الجدير بالذكر أن خلفية معاليه هي القطاع الخاص. فقد عمل في شركة شل (Shell) لمدة 23 سنة وأنقذ شركة الطيران الماليزية من الخسائر وشركات أخرى في سريلانكا وبالتالي إنه قرار فريد أن يكون المتابع من القطاع الخاص. وتقدم الوحدات الحكومية تقاريرها الأسبوعية الساعة الخامسة عصراً من كل نهار جمعة. والمؤشر له ثلاثة ألوان، إما أحمر إن لم ينفذ شيئا من المهمة ضمن المهلة، أو أصفر أي قيد التنفيذ ضمن المهلة، أو أخضر إذا أنجز العمل في الوقت المحدد. وتنشر تلك المعلومات على الرأي العام ليعرف مَن مِن الوزراء قد نفذ ومَن مِنهم لم ينفذ. هذا بحد ذاته يشكل محاسبة شفافة. ويسمح للجهة التي لم تنفذ أن يكون لونها الأحمر فقط مرتين متتاليتين يقع بعدها المعني تحت طائلة المساءلة والتحليل والتحقيق.
بهذه الطريقة حققت ماليزيا ارتفاعاً ملموساً في معدل دخل الفرد الواحد وأوجدت حتى يومه حوالي مليوني وظيفة، وبنت خمسة آلاف كيلومتر من الطرق وأوصلت المياه إلى مئتي ألف وحدة سكنية وإيصال التيار الكهربائي إلى حوالي أربعمئة ألف وحدة، وبنت حوالي ثمانين ألف وحدة سكنية. ودهشنا عندما علمنا أن استثمارات ماليزيا في الخارج فاقت الاستثمارات الأجنبية عندها، بذلك يكون الإنجاز الفعلي العام 2017 قد فاق التوقعات. ومن الدروس التي تعلمتها وحدة التنفيذ في ماليزيا والنصائح التي يقدمونها: الدعوة إلى عدم الخوف من الفشل أو من الرؤى الصعبة المنال وتبديل ذهنية الخوف والتردد بذهنية النمو، ثم إلى ترك خلافات المسؤولين بين بعضهم على حدة، والتركيز على الهدف الرئيسي والمتفق عليه في الخطة وفي هذا الصدد يقول سير ريتشارد برانسون إنه لا بأس إذا اختلف أعضاء فريق بالرأي طالما أن الهدف الموحد يجمعهم، وأخيراً اعتماد مؤشرات الأداء الواضحة وتقديم التقارير في الأوقات المحددة. قال وزير الشباب الماليزي: لا نريد فقط أن نبني شوارع وناطحات سحاب نورثها لأجيالنا المقبلة، بل نريد أيضاً قيماً تجعلنا نبني حضارة جديدةً.

اترك المقارنة وخذ العبر والدروس لجميع المعنيين ببرنامج «تنفيذ».