فهمى هويدى
أما وقد هيمن العقل الأمنى فليتنا نوسع الدائرة كى نرى استحقاقات الدفاع عن الأمن القومى من منظوره الكلى، الذى تقنعنا شواهده بأن المسئولية فيه أكبر بكثير من أن ينهض بها رجال الأمن وحدهم.
(١)
أمضى رامى بن براك ٣٥ عاما فى المخابرات الإسرائيلية الخارجية (الموساد) حتى صار نائبا لرئيس الجهاز. وخلال سنوات خدمته اعتبر الرجل «نجما» فى محيطه، الأمر الذى أهله لكى يترأس شعبة العمليات «قيساريا» التى تعد أهم شعب الجهاز. وبعدما أحيل إلى التقاعد تحدث قبل أسبوعين إلى القناة التليفزيونية الثانية، وفاجأ الجميع بشهادته التى أدلى بها أمام الصحفى دانى كشمارو حين كشف بعضا من خلفيات العمليات التى قام بها واعتبرت بطولات وإنجازات.
قال الرجل إن أهم عنصر فى النجاحات التى حققها هو وفريقه تمثل فى الفجوة التكنولوجية التى تفصل إسرائيل عن «أعدائها» الذين استهدفتهم. تحدث فى هذا الصدد عن أن الموساد يعتمد فى المهام التى يقوم بها على توظيف قدرات تكنولوجية تفوق بكثير ما هو متوافر لدى خصومها. أضاف أن إسرائيل تحقق عوائد إيجابية هائلة من وراء التطور الكبير الذى حققته فى مجال التقنيات المتقدمة، وهو ما سمح لها ليس فقط بتقليص الاعتماد على القوى البشرية، بل أفضى إلى تحولات جذرية على مقومات القوة العسكرية الإسرائيلية. وفى شرحه لهذه النقطة قال إنه نظرا لأن إسرائيل باتت ثانى أكبر منتج للطائرات بدون طيار فى العالم، وبسبب الاستخدامات العسكرية والأمنية والاستخباراتية الكبيرة والمتعددة التى باتت تضطلع بها تلك الطائرات، فإن الجيش قرر توظيف ذلك التميز على نحو آخر ــ إذ قرر تقليص الاعتماد على الطيارين والاتجاه بدلا من ذلك إلى الاستعانة بشباب مهمتهم تشغيل الطائرات بدل طيار من قواعد ثابتة وآمنة فى عمق إسرائيل كما ذكرت صحيفة ميكورريشونفى ١٣/٦/٢٠١٥. وهو ما أورده أحد خبراء الشئون الإسرائيلية، الدكتور صالح النعامى فى مقالة اعتمدت عليها ونشرتها صحيفة «العربى الجديد» تحت عنوان «صناعة البطولة بدون مخاطر».
(٢)
شهد الدكتور النعامى بأنه منذ العام ٢٠٠٤ ومرورا بالحروب التالية على غزة (فى الأعوام ٢٠٠٨ و٢٠١٢ و٢٠١٤) فإن معظم الشهداء فى الجانب الفلسطينى سقطوا من غارات شنتها الطائرات بدون طيار. ونقل عن الصحفى الإسرائيلى عمير رايبويورت الذى زار إحدى قواعد الطائرات بدون طيار، قوله إن مجندا ومجندة فى عمر ١٩ عاما ينفذان من مقصورة تحكم غارات عديدة بالضغط على زر. مشيرا إلى أن استخدام تلك الطائرات يقلص المخاطر التى يتعرض لها العنصر البشرى. وقد باتت إسرائيل تستخدمها فى هجمات داخل سوريا، وهو ما حدث فى اغتيال القيادى فى حزب الله اللبنانى جهاد مغنية واغتيال آخرين من قادة الحرس الثورى الإيرانى فى الجولان قبل ثلاثة أشهر. وبسبب إسهاماتها الميدانية الاستخباراتية عكف الجيش الإسرائيلى منذ عامين على تزويد كل كتيبة مقاتلة بطائرة بدون طيار. كما أنهم يتجهون فى المستقبل إلى تزويد كل كتيبة بقمر صناعى أيضا.
إضافة إلى ذلك فإن إسرائيل حسنت قدراتها الاستخباراتية عبر توظيف الحرب الإلكترونية، حيث لم يعد جلب المعلومات السرية الحيوية ممكنا فقط من خلال العناصر البشرية أو عبر توظيف آليات التنصت والتصوير المتقدمة، وإنما بات ذلك ممكنا من خلال تطوير برامج اختراق المنظومات المحوسبة. وقد منحت هيئة أركان الجيش الإسرائيلىفى مطلع عام ٢٠١٣ وساما لضابط فى وحدة التجسس الإليكترونى المعروفة بـ«الوحدة ٨٥٠٠» لتمكنه من الحصول على معلومات استخباراتية غاية فى الأهمية لطرف «عدو»، وقد تطور توظيف الإسرائيليين للفضاء الإليكترونى حتى بات الشعار المرفوع هو: الفيروس بدل الصاروخ، وذلك بعد النجاحات التى حققتها الهجمات الإليكترونية التى شنتها بالفيروسات خلال عامى ٢٠٠٩ و٢٠١٢ واستهدفت المنشآت النووية الإيرانية، الأمر الذى أوقع بها أضرارا جسيمة.
الملاحظة المهمة التى نبه إليها الباحث أن القدرات الكبيرة التى حققتها إسرائيل فى المجالين التقنى والإليكترونى تعود أساسا إلى نظام التعليم السائد، الذى يخطط له لكى يخدم تلك الأهداف. فى هذا الصدد ذكر أن وزير التعليم الإسرائيلى نفتالى بنات أطلق قبل ثلاثة أشهر ما سماها «ثورة الرياضيات»، التى تهدف إلى زيادة أعداد الطلاب الإسرائيليين الحاصلين على المستوى الخامس فى الرياضيات بالثانوية العامة، وكان الوزير الذى قاد وحدة خاصة فى الجيش قد أدار بعد تقاعده شركة تقنيات ناجحة. وهو يعتبر أن استيعاب علم الرياضيات متطلبا إجباريا لتحقيق إنجازات حاسمة فى صناعة التقنيات المتقدمة بشقيها العسكرى والمدنى.
(٣)
أكثر ما يهمنا فى الأمر أن التطورات الحاصلة فى العالم الافتراضى باتت تهدد بنية أى مجتمع، وهى أبعد وأخطر بكثير مما تتصور. يشهد بذلك الإنفاق الهائل الذى بات يوجه إلى أنظمة أمن المعلومات فى الشرق الأوسط بوجه أخص. إذ قدر الإنفاق الذى جرى ضخَه فى هذا المجال بأكثر من ٣٢ بليون دولار وفق مؤسسة اى. دىسى الدولية المتخصصة فى خدمات تكنولوجيا المعلومات. وفى ظل التطورات التى حدثت فإن احتمالات الدفاع أو الهجوم من خلال العالم الافتراضى أصبحت واردة. يذكر فى هذا الصدد أن استونيا تعرضت لهجوم من ذلك القبيل. ذلك أن تلك الدولة الصغيرة التى تقع فى منطقة بحر البلطيق (كانت تابعة للاتحاد السوفييتى وانضمت لاحقا للاتحاد الأوروبى) فوجئت فى عام ٢٠٠٧ بعد ساعات من صدور قرار رئيسها بنقل تمثال يخلد ذكرى الجيش السوفييتى بأن البلد أصيب بالشلل. إذ تعرض لهجوم إليكترونى عطل أنظمة الكمبيوتر المعرفية والخدمات الحكومية والأنظمة الحيوية فى الدولة، الأمر الذى عزلها عن العالم الخارجى.
قرأت مقالة فى الموضوع للأكاديمى والكاتب الأردنى موسى برهومة (نشرتها صحيفة الحياة اللندنية فى ١١/١١/٢٠١٥). ومما ذكره أن جندى المستقبل المتطور لم يعد مضطرا لحمل بندقية على كتفه وإنما أصبح يزود بجهاز كمبيوتر، لا سيما أن الهجمات الإليكترونية التى يطلق عليها «دبدوس» وهى هجمات جيوبوليتيكية، قد زادت منذ مطلع عام ٢٠١٥ بمعدل ٣٠٠ فى المائة. وهى تستهدف حجب الخدمة عن المؤسسات الحيوية فى الدولة، وربما تتطور فى المستقبل إلى استهداف الأنظمة الاستخباراتية الحساسة، وحركة الملاحة وأنظمة المستشفيات والمياه والكهرباء أو النفط والغاز والمصانع التى تستخدم المواد الكيماوية.
فى هذا الصدد ذكَر الكاتب بما أذاعه مسئولون إيرانيون فى عام ٢٠١٤، عن إحباط محاولة استهدفت موقع (إى آر ٤٠) النووى بالقرب من مدينة أراك وسط البلاد. وسبق ذلك تعرض مفاعل «نظنز» الإيرانى لتخصيب اليورانيوم لهجوم بفيروس عام ٢٠١٠، أدى إلى حدوث توقف مؤقت لأجهزة الطرد المركزى، وهو ما حملت طهران مسئوليته فى الحادثتين إلى الولايات المتحدة وإسرائيل.
الشاهد أن قواعد الصراع وأدواته باتت تشهد انقلابا شاملا يستدعى إعادة النظر ليس فقط فى خطط التفكير الاستراتيجى والتسليح، وإنما أيضا إعادة النظر فى خطط ومناهج التعليم لتسويغ التعامل مع متغيرات أدوات الصراع التى تجاوزت كل الحدود المتعارف عليها.
(٤)
الأجراس التى ترددت أصداؤها فى مختلف عواصم العالم أيقظت الأغلبية العظمى، ونبهت الجميع إلى أن النهوض بالتعليم يمثل أحد المفاتيح المهمة لتحقيق التقدم. وإذ ظلت فنلندا تحتل الأولوية بين الدول التى حققت تلك النهضة وجنت ثمارها، ولحقت بها دول غربية عدة مثل النرويج وسويسرا وكندا. إلا أن الدول الآسيوية نجحت فى تحقيق القفزة المنشودة، حتى أصبح تلامذة آسيا يتصدرون تصنيف التعلم بين طلاب العالم. وتتولى منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية قياس النمو فى ذلك المضمار من خلال اختبارات تجريها فى برنامج يحمل اسم «بيسا» أى البرنامج الدولى لمتابعة تحصيل التلاميذ، الذى أصبح بمثابة لوحة التصنيف المدرسىالعالمى. وهو يركز على اختبار التلاميذ فى ثلاث مواد أساسية هى: اللغة الأم والرياضيات والعلوم.
لا مجال للحديث عن موقع مصر فى خرائط التصنيف المدرسىالعالمى. فسمعتها السيئة فى مجال التعليم لها صداها فى كل محفل، وحين ذكرت «فورين بوليسى» فى عام ٢٠١٣ أن جودة التعليم فى مصر أصبحت صفرا فإن ذلك لم يكن مفاجئا، والأخطر من ذلك أنه لم يحدث أى صدى فى الأوساط المعنية بالتعليم فى البلد. وفى العام الأخير نشر موقع جريدة «الشروق» (فى ٢١/٥/٢٠١٥) نتيجة تقرير للمنتدى الاقتصادىالعالمى حول جودة المدارس الابتدائية احتلت فيه مصر المركز الأخير بين ١٢٤ دولة، وفى المؤشر العام لرأس المال البشرى جاء ترتيب مصر ٨٤ بين الـ١٢٤ دولة، فى حين احتلت فنلندا موقع الصدارة الأول.
احتفظ بتقرير حول التعليم فى آسيا نشرته صحيفة «لوموند» الفرنسية (فى ٤/١٢/٢٠١٢) ضرب المثل بالنظام التعليمى بكوريا الجنوبية، الذى يفرض على التلاميذ قضاء نحو ٥٠ ساعة فى الأسبوع فى الدراسة، وذلك عدد من الساعات يفوق نظيره الأوروبى بـ١٦ ساعة. ذلك أنهم يدخلون الصفوف فى السابعة والنصف صباحا ويغادرونها فى الساعة الرابعة بعد الظهر. ومعظم هؤلاء يغادرون الصفوف لكى يلتحقوا بمدارس خاصة تعدهم لدخول الجامعة منذ انخراطهم فى المرحلة الابتدائية. وقدر التقرير نفقات الأهالى على المدارس الإعدادية (فى عام ٢٠١٢) بما يعادل ١٣ بليون يورو، وهو ما يعادل عشرة أضعاف ما أنفقه الفرنسيون على «المساعدة» المدرسية. وبعض التلاميذ الكوريين يستمرون فى الدراسة اليومية حتى الساعة العاشرة مساء. وهذا الموعد حددته الحكومة للحيلولة دون إفراط الأهل فى حمل أولادهم على الدراسة إلى ما بعد ذلك الموعد. وهذا الذى حدث فى كوريا الجنوبية له نظيره فى عدة دول آسيوية أخرى، منها سنغافورة التى أصبحت توصف بأنها أرض الفرص العلمية التى لا نظير لها.
إذا سألت: أين نحن من كل ذلك؟ فلن أجيب على السؤال. ولكننى أدعوك إلى مطالعة أخبار التعليم فى الصحف الصباحية، وحين تجد أنها أدارت ظهرها للتعليم واشتغلت بالأمن فإنك لن تتلقى الإجابة الشافية فحسب، ولكنك أيضا ستعرف إلى أين نحن ذاهبون. وستدرك عندئذ حقيقة الثورة التى ننتظر انطلاقها للانخراط فى التاريخ، وبغير النجاح فيها سنصبح خارج مجرى التاريخ. ولن نستطيع أن ندعى أن أحدا تآمر علينا فى ذلك.