هافينغتون بوست عربي
مزيد من الغموض يكتنف رحلة شركة مصر للطيران رقم 804 التي سقطت في البحر المتوسط، وذلك بعد تمكن المسؤولون المصريون من إصدار بيان "مقتضب" لا يوضح بشكل كاف حول ما حدث للطائرة.
وزير الطيران المدني المصري قال يوم أمس الخميس إنه تم العثور على بقايا متفجرات على بقايا ضحايا الطائرة المنكوبة، ما يدل بوضوح وقوع عمل إرهابي.
ولا بد أن يكون المصريون لديهم قدر أكبر من الأدلة من تلك التي أفصحوا عنها في هذا البيان، فقد استغرقوا ستة أشهر لفحص الصندوقين الأسودين للطائرة ومسجل صوت قمرة القيادة ومسجل بيانات الرحلة، بحسب تقرير لموقع ديلي بيست الأميركي.
وفضلاً عن استعادتهم جثثاً من موقع التحطِّم في أعماق البحر المتوسط، فلديهم أيضاً سجل مرئي للحالة التي كان عليها حطام الطائرة وخريطة تفصيلية لموقع الحطام. ولديهم كذلك دليلٌ جوهري عبارة عن 7 رسائل فشل (إخفاق) أُرسِلت تلقائياً في الثواني الأخيرة قبل أن تشرع الطائرة في حتفها اللولبي (سقوط بشكل لولبي).
سجلات الرحلة
كان البحث في حالة هذه الكارثة عن الحطام في أعماق البحر سريعاً وناجحاً على غير العادة في مثل هذه الكوارث، وتمكَّنوا من تحديد موقع الطائرة على عمق يصل إلى 9 آلاف قدم، واستعادوا سجِّلات الرحلة، وقاموا كذلك بعمل تسجيل مرئي لأجزاء الطائرة الرئيسية، واستعادة الجثث وإتمام عملية تعيين كل الحطام خلال أقل من شهر من وقوع الكارثة.
وتوصَّلت العملية، التي قادتها شركة "ديب سيرش أوشين" أو "Deep Search Ocean"، التي تتخذ من موريشيوس مقراً لها، إلى صورة أسرع وأكثر اكتمالاً للحالة المادية للطائرة ومسجِّل بيانات الرحلة الثمين، فلم يُرَ شيءٌ كهذا في الكوارث السابقة التي حدثت في المياه. ومع ذلك، لا نسمع سوى الصمت حتى الآن.
هذا على النقيض مع رحلة الخطوط الفرنسية رقم 447 التي اختفت فوق المحيط الأطلنطي الجنوبي عام 2009؛ إذ حدثت الكارثة في الأول من يونيو/حزيران، وتمكَّن المحققون الفرنسيون بعد شهرٍ واحدٍ فقط، 2 يوليو/تموز، من نشر تقريرٍ أوليٍّ معتمدين فقط على البيانات التي جمعوها من الحطام الطافي على سطح المياه، و50 جثة، وعددٍ مشابهٍ من رسائل الفشل التلقائية.
ليس هذا فحسب؛ بل وكان التقرير كذلك قادراً على إعطاء مؤشراتٍ واضحةٍ حول سبب حدوث الكارثة، وهو توقُّف نظام التحكُّم الآلي في الطائرة نتيجة وجود أحد التجهيزات المعيبة (المعطوبة)، وهذا هو ما تأكَّد بعد سنتين عندما حُدِّد موقع الحطام.
إذاً، في هذه الحالة -رحلة مصر للطيران- يجب أن يكون المصريون خلال فترة الأشهر الستة التي مرَّت منذ استعادة الأدلّة من البحر المتوسط قد تمكَّنوا من الفحص التام للأدلة من أجل فهم ما حدث، وبالنظر إلى السرعة التي وقعت بها الكارثة، سيكون لدينا احتمالان فقط: عملٌ إرهابي أو خللٌ فني.
إنَّنا نعلم بالفعل من رسائل الفشل السبع أنَّ التتابع السريع للأحداث لعب دوراً في تحديد مصير الطائرة. فأشارت الرسالتان الأوليان إلى مشكلة كهربائية في أجهزة إزالة الجليد بقمرة القيادة. وبعد ذلك، تحذير من دخان في مرحاض المقدمة، تماماً خلف قمرة القيادة. وكان هناك تحذيرٌ ثالث من عطلٍ كهربائي آخر في نافذة قمرة القيادة، ومن ثَمَّ، وبشكلٍ أكثر خطورة، عطلٍ في وحدة التحكُّم في الطيران.
ما حدث، أنَّ "المخ" الكهربائي للطائرة -أجهزة الكمبيوتر التي توجِّه أنظمة التحكُّم- كان قد احترق لسببٍ من الأسباب. وكانت الرسالة الأخيرة، التي كانت حتمية بعد هذا العطل، عن خروج أجهزة التحكم في الطائرة نفسها عن السيطرة، وهو ما يفسِّر سبب ملاحظة المراقبين الجويين في اليونان انحرافاً مفاجئاً وعنيفاً لـ"الإيرباص" من ارتفاعها العالي الذي بلغ 37 ألف قدم، ثُم لاحقاً سقوطها بشكلٍ لولبي.
الحلقات المفقودة
حدث كل شيءٍ بسرعة لدرجة أنَّ الطياريْن كانا غير قادريْن على إرسال رسالة استغاثة. والحلقة الأخرى البارزة المفقودة في هذه الكارثة، هي عدم تبنِّي أية جماعة إرهابية المسؤولية عنها.
وقادها مسار الطائرة في ساعتها الأخيرة من أسمرة عاصمة إريتريا، إلى القاهرة، ومن القاهرة إلى تونس، ومن تونس إلى مطار شارل ديغول في باريس.
وأي حديث عن عملٍ مدبَّر سيسلط الضوء على هذا المسار؛ أين يمكن أن تكون القنبلة قد زُرِعت دون أن تُكتّشف؟
ويمكن أن يشير تحذير الدخان في مرحاض المقدمة إلى موقعٍ قد يكون انفجارٌ صغيرٌ نسبي فيه مدمراً. فموقع هذا المرحاض ليس فقط خلف قمرة القيادة مباشرةً، لكنه كذلك يعلو غرفة التجهيزات الإلكترونية، حيث يكون مخ الطائرة عُرضةً لتفجيرٍ من الأعلى.
ومع ذلك، يبقى من الصعب التوفيق بين هذا الطرح والبيان المصري حول العثور على بقايا متفجرات على الجثث. (فُحِص الرفات البشرية "بقايا الجثث" التى استُعِيدت من المياه لأول مرة على متن السفينة بواسطة أطباء متخصصين، ومن ثَمَّ خُزِّن في وحدة ثلاجات). فكمية صغيرة من المتفجِّرات ومزروعة بشكلٍ احترافي في المرحاض لن تؤدِّي إلى هذا النوع من التفجيرات الذي قد يترك بقايا على الركاب الجالسين في القمرة، فإذا كان الانفجار بهذه القوة لكان تسبب في إحداث فتحةٍ في القمرة، وهذا كان من شأنه أن يكون كافياً لإحداث إزالةٍ مفاجئةٍ للضغط، في حين أنَّ ما تظهره رسائل الفشل بوضوح هو ضررٌ جسيمٌ في غرفة التجهيزات الإلكترونية.
"تلاعب وتزييف"
من ناحية أخرى، إذا كانت بقايا المتفجِّرات موجودة بالفعل على جثث الطيارين، فإنَّ هذا من شأنه تأكيد أنَّ الانفجار كان أكثر دقة، ومن الممكن كذلك أن يفسِّر سبب عدم وجود رسالة استغاثة. وما كان أي من هذه التكهُّنات ليكون ضرورياً إذا ما كان المصريون واثقون كفايةً بأدلتهم ونشروا تقريراً مبدئياً عن كامل تحليلات الطب الشرعي التي قاموا بها.
في الواقع، إنَّهم لم يكونوا على استعدادٍ حتى للإفراج عن جثث هؤلاء الذين ماتوا. فقد طالبت فرنسا مِراراً وتكراراً بإعادة الجثث إلى بلدانها، وكرَّرت الطلب مرةً أخرى من المصريين الخميس 15 ديسمبر/كانون الأول، وعرضوا من جديدٍ المساعدة في التحقيق.
وعلى مدار تلك الأشهر الطويلة من الارتباك والتعتيم، تزايد الشعور بالمرارة لدى أسر الضحايا الفرنسيين. ووصف ستيفان جيكل، رئيس إحدى المنظمات الفرنسية التي تمثِّل الناجين من هجماتٍ إرهابية أو حوادث كارثية، البيان المصري بأنَّه "تلاعبٌ" وتزييفٌ أو تحريفٌ للمعلومات.
وأضاف: "لا شيء يمكنه تعزيز فرضية الحادث الإرهابي. إنَّه ابتزازٌ من طرف السلطات المصرية لتجعل هذه الفرضية ذات مصداقية وتحمي شركة مصر للطيران عن طريق وضع المسؤولية مرة أخرى على عاتق باريس".
واستقبل مكتب التحقيق والتحليل (BEA)، الذي قام بذلك العمل الاستثنائي في حالة رحلة الخطوط الفرنسية 447، الأنباء الواردة من القاهرة بحذرٍ، قائلاً: "في ظل غياب معلوماتٍ تفصيليةٍ عن الظروف التي جُمِعت في ظلِّها العيّنات والتدابير التي أدَّت إلى الكشف عن آثار المتفجِّرات، يرى مكتب التحقيق والتحليل أنَّه من غير الممكن في هذه المرحلة الخروج باستنتاجات حول أسباب الحادثة".
إنَّ هذا مثالٌ آخر مثيرٌ للقلق حول نقص الشفافية والتصريحات المتضارِبة والارتباك العام الذي يبديه مسؤولون مصريون، وذلك بعد حادث تحطُّم طائرة الـ"إيرباص" الروسية فوق شبه جزيرة سيناء في أكتوبر/تشرين الأول 2015.