أ.د. حسني نصر
تواجه البشرية في الوقت الحالي موجة من الحروب والعمليات الإرهابية وحملات الكراهية والتحريض على العنف لم تشهده من قبل سوى في الفترات القصيرة التي سبقت الحربين العالميتين. ويبدو العرب وحدهم أكثر المستهدفين بهذه الحروب والهجمات الإرهابية التي لم تعد تقتصر على ميادين القتال بين الدول ولكنها دخلت إلى شوارع المدن وأبواب المساجد ودور العبادة، وتحولت إلى حروب أهلية دامية يدفع ثمنهما الملايين من الأبرياء من دمائهم وممتلكاتهم وكرامتهم. في العالم العربي وحده تشتعل الحروب والصراعات الأهلية والطائفية في سوريا واليمن والعراق وليبيا، وتمارس الجماعات الإرهابية جرائمها التي تطال المدنيين والعسكريين على حد سواء في دول أخرى. هذه الأوضاع تجعل تساؤل البعض عن دور الإعلام العربي في تأجيج الصراعات والحروب تساؤلا مشروعا وفي وقته تماما، خاصة في ظل التطور الكبير الذي شهدته وسائل الاتصال الجماهيرية، ودخول وسائل إعلام جديدة تشجع على الحروب والإرهاب على خط المواجهات المسلحة.
من المؤكد أن الإعلام العربي أو بالأقل قطاع منه لعب ومازال يلعب دورا محوريا في تأجيج الصراعات وإطالة أمد الحروب بين بعض الدول في المنطقة مثلما كان الحال في الحرب العراقية الإيرانية ومثلما هو الحال الآن في الحرب في اليمن. وعلى مستوى الدولة الواحدة كان للإعلام العربي دورا مأساويا في تأجيج الصراعات السياسية والطائفية والعرقية والمذهبية داخل بعض الدول من خلال تبني خطاب الكراهية والتحريض والعنف، مثلما كان الحال في الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت أكثر من خمسة عشر عاما، ومثلما هو الحال الآن في العراق واليمن وليبيا. هذا الدور المشبوه لبعض وسائل الإعلام العربية في صنع وتنمية العداء على مختلف المستويات الوطنية والإقليمية، يجعلنا نطرح سؤالا مهما وصعبا أعتقد أننا تأخرنا كثيرا في طرحه، وهو: كيف ومتى تتحول وسائل الإعلام العربية إلى صحافة سلام تشجع الحوار كبديل عن العنف، وتخمد نار الخلافات والاختلافات بدلا من إشعالها.
يتفق الجميع على أن الواقع العربي الراهن يعاني من تشوهات عديدة تحتاج إلى أن تبذل وسائل الإعلام جهودا مضاعفة لإعادة اللحمة الإنسانية بين الشعوب وتحقيق الترابط الإنساني والتقارب والوئام بين أفرادها، ونقل وتعزيز التراث الإنساني في التسامح والتكافل والتعاطف، واستبدال لغة الحروب والنزاعات بلغة التقارب والوئام الإنساني. وقد شهدت البيئة الاتصالية العربية تغيرات عديدة في السنوات الفائتة، كان أبرزها ظهور وسائل إعلام جديدة قادرة على اختراق الحدود الجغرافية للدول والوصول إلى الإنسان العربي في كل مكان على الخريطة العربية الممتدة من الخليج إلى المحيط، ولعل هذا ما يضاعف من قدرة ومسؤولية وسائل الإعلام العربية في نشر وتعزيز ثقافة جديدة تشجع على التقارب والوئام والتفاهم والعيش المشترك بعد أن اصطلي العالم العربي وما زال بخطاب الكراهية والإقصاء والصراع.
لقد أصبحت وسائل الإعلام العربية في مجملها بفضل ثورتي الاتصال والتكنولوجيا ذات طابع عابر للعربية، لا تحدها حدود جغرافية، وأصبحت كل وسيلة إعلام تصدر من قرية أو مدينة نائية في العراق أو في موريتانيا قادرة على أن تصل إلى جمهور عربي واسع، سواء من خلال مواقعها على شبكة الويب، أومن خلال منصات النشر العديدة التي يمكن أن تستخدمها مثل تطبيقات الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي، وبالتالي تحولت كل وسائل الإعلام في كل دولة عربية إلى وسائل عربية الطابع يمكنها أن تخاطب كل الشعوب العربية، وهو ما يعزز من قدراتها ويتيح إمكانية توظيفها في تحقيق قدر اكبر من التقارب والوئام الإنساني بين الشعوب والدول والمجتمعات العربية.
لقد جربنا كل الحلول السياسية والعسكرية والأمنية الممكنة لوقف الحروب الأهلية والطائفية، ومواجهة الأعمال الإرهابية التي تعاني منها دول عربية عديدة، فلماذا لا نجرب حلا إعلاميا سهلا وسلميا. يتمثل هذا الحل من وجهة نظري في الاتفاق على توجيه الإعلام العربي، سواء ذاتيا من خلال الإعلاميين أنفسهم عبر جمعياتهم ونقاباتهم، أو من خلال مجلس وزراء الإعلام العرب التابع لجامعة الدول العربية، ليكون إعلام سلام وتقارب، يركز على تشجيع التقارب بين أبناء الشعب الواحد في الداخل وبين الشعوب العربية ككل في الخارج. ما أحوجنا في هذه الأوقات العصيبة التي نمر بها إلى صحافة سلام تكون ذات توجه سلمي، وجماهيري، وتعتمد على الحقائق، وتقدم حلولا للمشكلات، وليس صحافة حرب ذات توجه عنيف، ونخبوي، ودعائي. علينا أن نشجع وننشر فكرة صحافة السلام، وعلى جمعيات ونقابات الصحفيين العربية أن تستيقظ من سباتها العميق وتقدم مبادرات حقيقية وقابلة للتنفيذ، تستهدف إصلاح منظومة العمل الصحفي، وتغيير طرق تغطية النزاعات والصراعات العربية، وهو ما يمكن يؤثر في ديناميكيات الصراع، ويخفض مستوى العنف، ويقود إلى التوصل إلى حلول، وبالتالي إلى إحلال السلام الذي طال انتظاره. دعونا نؤسس لفكر إعلامي عربي جديد يشجع على استخدام وسائل الإعلام في حل النزاعات العربية- العربية والنزاعات الطائفية أو السياسية داخل الدولة الواحدة، وإضفاء الطابع الإنساني عليها، والتفرغ لإيجاد الأصدقاء بدلا من صنع الأعداء.
علينا أن نستفيد من تجارب العالم المتقدم في حل صراعاته عبر خطاب إعلامي يتسم بالسلام. وفي هذا الإطار من الضروري أن ندرك أن صحافة السلام تترك الناس أقل غضبا وأقل خوفا وأكثر تفاؤلا وتعاطفا وقبولا للآخر المختلف، كما أن من يتعرضون لصحافة السلام غالبا ما يكونوا أكثر موضوعية وأقل توجها نحو إلقاء اللوم على طرف واحد من أطراف الصراع، وأكثر توجها نحو التفكير في الحلول التعاونية للمشكلات التي أدت إلى النزاع.
جربوا هذه المرة أن تستخدموا وسائل الإعلام بطريقة مغايرة. جربوا أن تستخدموها لصنع وتقوية الســــلام وزيادة الفهم المتبادل بين شعوب تربط بينها أواصر اللغة والدين والتاريخ المشترك. جربوا أن تستخدموها في مقاومة الطائفية والإرهاب والعنصرية والدعوة إلى الحرب. جربوا.. ولن تخسروا أكثر مما خسرتم في حروب عبثية لا طائل منها، جعلتنا- كما قال أحدهم يوما ما- أضحوكة الأمم.
أكاديمي بجامعة السلطان قابوس