روبرت سكيدلسكي
كان الأثر الاقتصادي الأكثر درامية الذي ترتب على تصويت المملكة المتحدة على الخروج من الاتحاد الأوروبي انهيار الجنيه الإسترليني. فمنذ شهر يونيو/حزيران، انخفضت قيمة الجنيه بنحو 16% في مقابل سلة من العملات. وقد رَحَّب ميرفين كنج المحافظ السابق لبنك إنجلترا بسعر الصرف المنخفض باعتباره "تغيرا محمودا". والواقع أن انخفاض قيمة العملة ربما يُعَد نِعمة مع ارتفاع عجز الحساب الجاري البريطاني إلى أكثر من 7% من الناتج المحلي الإجمالي ــ وهو العجز الأكبر على الإطلاق منذ بدأ جمع البيانات في عام 1995. ولكن أهي نعمة حقا؟
يزعم الاقتصاديون عادة أن السبيل إلى موازنة الحسابات الخارجية لأي بلد تتلخص في خفض قيمة عملتها، والذي من شأنه أن يجعل الواردات أكثر تكلفة والصادرات أرخص، فيؤدي بدوره إلى انخفاض الواردات وارتفاع الصادرات. ويجري التعويض عن ارتفاع أسعار الواردات ــ الخسارة الصافية للبلاد ــ بزيادة معدلات تشغيل العمالة وارتفاع الأجور التي تتولد عن الموقف الأكثر تنافسية الذي تكتسبه البلاد.
ولكن لكي يتسنى لخفض قيمة العملة أن يحقق الغرض منه فلابد أن يكون المزيد من الطلب على الصادرات قادما عندما ينخفض سعر الصرف (أو كما يقول أهل الاقتصاد، لابد أن تكون مرونة سعر الطلب على الصادرات مرتفعة). بيد أن دراسات مختلفة أظهرت أن مرونة سعر الطلب على صادرات المملكة المتحدة منخفضة. على سبيل المثال، تشير دراسة حديثة أجراها فرانشيسكو آيلو، وجراتسيا بونانو، وأليسيا فيا من مجموعة دراسات التجارة الأوروبية إلى أن "مستوى الصادرات في الأمد البعيد يبدو منفصلا عن سعر الصرف الحقيقي في حالة المملكة المتحدة".
وهذا يعني أن المستهلكين والمنتجين البريطانيين لابد أن يتحملوا وطأة خفض القيمة كاملة: مع تقنين استهلاكهم للواردات بفِعل ارتفاع حاد في تضخم الأسعار، في غياب أي مكاسب تعويضية للصادرات. وهذا ليس مجرد اقتراح نظري بأي حال من الأحوال. ففي الفترة 2008-2009، عندما كانت بقية العالم على حافة الانكماش، كانت المملكة المتحدة تعاني من الركود التضخمي، مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بمعدل مرتفع بلغ 6.1% سنويا، في حين بلغ التضخم نحو 5.1%. وكان السبب وراء هذا انخفاض قيمة الجنيه الإسترليني بأكثر من 21%، من الذروة إلى الحضيض، في الفترة من 2007 إلى 2008.
علاوة على ذلك، وبرغم تراجع عجز الحساب الجاري إلى نحو 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2011، كان التحسن مؤقتا. فبعد عام 2011، بدأ عجز الحساب الجاري يتسع مرة أخرى، حتى برغم أن الجنيه لم يتمكن قط من استرداد ما خسره من قيمته. وبلغة أهل الاقتصاد، يبدو أن المملكة المتحدة تعاني من شكل متطرف من أشكال تأثير هاوثاكر-ماجي ــ على اسم اثنين من خبراء الاقتصاد الذين اكتشفوا في عام 1969 أن مرونة أسعار الواردات والصادرات من الممكن أن تتباعد بشكل كبير، فيؤدي هذا إلى ظهور ميل دائم نحو اختلال توازن الحساب الجاري.
ويبدو أن السبب يرجع إلى الانكماش الهائل الذي شهده قطاع التصنيع في المملكة المتحدة ــ من نحو 28% من إجمالي القيمة المضافة عام 1978 إلى أقل من 10% اليوم. وكما أشار الخبير الاقتصادي نيكولاس كالدور قبل فترة طويلة، تميل صادرات التصنيع إلى التفوق على الصادرات من الخدمات لأن التصنيع يحقق عوائد أعلى مقارنة بالخدمات.
بالإضافة إلى هذا، ضَمَنَت الإصلاحات البنيوية منذ منتصف التسعينيات التكامل العميق بين المصدرين البريطانيين وسلاسل الإمداد العالمية. ونتيجة لهذا، يحتاج العديد من المصدرين البريطانيين إلى مدخلات مستوردة؛ وعلى هذا فعندما تنخفض قيمة الإسترليني وترتفع أسعار الواردات، يتسبب تأثير ردود الفعل المتسلسلة على أسعار الصادرات في جعلها أقل تنافسية. وتُظهِر أحدث بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن حجم الاستيراد في صادرات المملكة المتحدة يبلغ نحو 23%، مقارنة بنحو 15% للصادرات الأميركية واليابانية.
في الوقت الراهن، تعتمد المملكة المتحدة على تدفقات رأس المال إلى مدينة لندن للحد من انخفاض قيمة الإسترليني. ولكن كما أظهر انهيار سعر الصرف في عام 2008، كان هذا المصدر للطلب الخارجي على الإسترليني غير مستقر إلى حد كبير. فعندما ينعكس اتجاه هذه التدفقات حتما، تتلقى الصادرات والإسترليني ضربة أخرى موجعة.
ينطوي أسوأ سيناريو على انخفاض حاد في قيمة الإسترليني، يعقبه التضخم الذي يعززه ارتفاع أسعار الصادرات البريطانية، فيغذي كل هذا المزيد من انخفاض قيمة العملة. ولن تتوقف حلقة الهلاك هذه إلا عندما يعاني المستهلكون البريطانيون من انخفاض في الدخل الحقيقي بدرجة غير مشهودة عادة خارج الدول النامية.
وتتمثل النتيجة الأكثر ترجيحا في نوع من تأثير التعفن البطيء، مع تسبب انخفاض القيمة الدوري تدريجيا في دفع مستويات معيشة كل من يكسبون عيشهم بالجنيه الإسترليني إلى الانخفاض.
ولكن ما العمل؟ لن يتسنى حل هذه المعضلة إلا من خلال التحرك الحكومي السريع للاستعاضة عن السلع المستوردة حاليا ببضائع منتجة محليا. ويتلخص الحل الكلاسيكي في فرض الضوابط على الواردات. ولكن هناك تدابير أخرى متاحة أقل إضرارا بقواعد التجارة والوئام الدولي.
عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ الاقتصاد السياسي الفخري في جامعة وارويك.